Research

قراءة في انتخابات تايوان.. السياقات الداخلية والخارجية والتداعيات المحتملة

  • د. محمد أبوغزله
    خبير شؤون سياسية
  • رهف الخزرجي
    رئيس قسم النشر
0 Views
National Policies

قراءة في انتخابات تايوان.. السياقات الداخلية والخارجية والتداعيات المحتملة


أسفرت الانتخابات الرئاسية التايوانية[1]، التي جرَت في 13 يناير الحالي، عن فوز لاي تشينغ تي (40% من الأصوات)، مرشح الحزب الديمقراطي التقدّمي) الحزب الحاكم (بعد أن هزم منافسَيه هو يو إيه (33.5% من الأصوات) من حزب الكومينتانغ، وكو وين جي (26.6% من الأصوات) من حزب الشعب التايواني.

وبينما يمثل هذا النصر علامة فارقة غير مسبوقة على المستوى المحلي، كونها المرة الأولى التي يفوز فيها حزب سياسي في تايوان بالانتخابات الرئاسية الثالثة على التوالي، فإن آثاره على العلاقات التايوانية-الصينية يثير القلق في المنطقة وخارجها، وذلك بالنظر إلى موقف "تشينغ" المؤيد للاستقلال عن الصين، ودعمه القوي لتوثيق العلاقات مع الولايات المتحدة.

وتهدف هذه الورقة إلى بيان السياقَين المحلي والإقليمي، التي جرَت فيهما الانتخابات، ومن ثم بحث التداعيات على العلاقات مع الصين، ومسار الصراع مع الولايات المتحدة بشأن تايوان. 

أولًا، السياق والبيئة الداخلية 

تنافُس شديد وسط تحديات غير مسبوقة

تنافَس في الانتخابات ثلاثة أحزاب رئيسية، وهي الحزب الديمقراطي التقدمي (DPP)؛ الحزب الحالي، الذي يدعو إلى استقلال تايوان، بقيادة ويليام لاي تشينغ تي، الذي فاز بالرئاسة، ويركز داخليًّا على الاستثمار في البحث والتطوير، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وتعزيز حقوق العمل للحدّ من عدم المساواة في الدخل، وتعزيز ممارسات الطاقة المتجدّدة والتنمية المستدامة، والحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين، ولكن مع تنويع التجارة من خلال تعزيز العلاقات مع الدول الأخرى[2]. 

والحزب التالي هو الكومينتانغ (KMT)؛ وهو حزب المعارضة الرئيسي، بقيادة هوى يو إيه، الذي جاء في المركز الثاني في السباق الرئاسي، ويدعو إلى علاقات اقتصادية أوثق مع الصين، والسعي إلى المزيد من اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول الأخرى لتحسين الوصول إلى الأسواق العالمية، ودعم الصناعات التقليدية والمتعثرة مثل الزراعة[3]. 

أما الحزب الثالث فهو حزب الشعب التايواني (TPP)، وهو حزب يمين وسط جديد نسبيًّا تأسس عام 2019، بقيادة كو وين جي، الذي احتلّ المركز الثالث في السباق الرئاسي[4]، ويركز على القضايا الداخلية والبراغماتية في حلّ المشكلات دون تحيّزات أيديولوجية قوية، ورفع القيود التنظيمية، وتخفيض الضرائب لتشجيع الاستثمار في الأعمال التجارية وريادة الأعمال.

وبشأن بالعلاقة مع الصين، يميل حزب الشعب التايواني إلى المحافظة على الوضع الحالي من "الغموض الاستراتيجي"، وتجنُّب التصريحات المباشرة بشأن الاستقلال، أو الاتحاد مع الصين، ويدعو إلى الحوار والمفاوضات السلمية لحل الخلافات عبر المضيق ومنع الصراع، بينما يدعم الحزب التبادلات الاقتصادية والثقافية متبادلة المنفعة مع الصين. 

وجرَت الانتخابات وسط تنافس شديد بين هذه الأحزاب؛ حيث ألقت الأوضاع الاقتصادية، ولاسيّما التضخم وعدم المساواة، في الدخول بظلالها على المشهد؛ مما أدى إلى تأجيج الإحباط الشعبي، ودفع الناخبين نحو وعود الاستقرار والازدهار. فقد قدّم كلٌّ من الحزب الديمقراطي التقدّمي الحالي، وحزب الكومينتانغ المعارض، حلولًا مختلفة إلى حدٍّ كبير؛ الأمر الذي يعكس الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل المجتمع التايواني.

وأكد الديمقراطيون التقدّميون، تحت راية الرئيسة المنتهية ولايتها، تساي إنغ وين، على هوية تايوان الفريدة وديمقراطيتها[5]، ودافعوا عن نجاحاتهم في تعزيز العلاقات مع المجتمع الدولي، بينما وعدوا بمواصلة التقدّم الاقتصادي؛ من خلال الابتكار التكنولوجي، ومبادرات الطاقة الخضراء.

واستهدف حزب الكومينتانغ، الذي استفاد من الحنين إلى الازدهار الاقتصادي الماضي والعلاقات الأوثق عبر المضيق، المخاوف بشأن ارتفاع تكاليف المعيشة، والتهديد المتصور الذي يفرضه الخطاب الصيني الحازم، متعهدًا بإجراء إصلاحات اقتصادية، وتحسين العلاقات مع البرّ الرئيسي، والتركيز على الصناعات التقليدية والقيم العائلية.

وعلى النقيض من التوجهات الأيديولوجية، التي يتبنّاها الحزبان الرئيسيّان، أكد حزب الشعب التايواني على القضايا الاقتصادية، مثل ارتفاع تكاليف الإسكان، والأجور الراكدة، وعدم المساواة الاقتصادية، ووعد بحلول عملية للحياة اليومية. 

شبح التنين.. الضغوط الخارجية والمناورات الجيوسياسية

بعيدًا عن ساحة المعركة الداخلية، كان ظِلّ الصين يلوح في الأفق. وقد سارت الانتخابات في جوّ من التوتر يبدو غير مسبوق، سواء فيما يتعلق بعلاقة تايوان بالصين، أو علاقة الأخيرة بالولايات المتحدة؛ حيث شهِدت المنطقة خلال السنوات الأخيرة حالة من التوتر الشديد، ولاسيّما مع تنامي النفوذ العسكري الصيني وغير المسبوق في مضيق تايوان ومنطقة بحر الصين الجنوبي. وما فاقم من حدة التوتر بين بكين واشطن هو زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة، نانسي بيلوسي، إلى تايوان في 2022، في ظروف كانت فيها المنطقة على حافة صفيح ساخن[6]؛ ما تسبّب في تزايد وتيرة المناورات العسكرية الصينية في مضيق تايوان، ومحاكاة غزوها. 

وكان للمناورات العسكرية التي قامت بها بكين، وحملات الضغط الدبلوماسي، وتكتيكات الإكراه الاقتصادي، تأثير ملموس على المناخ السياسي في البلاد؛ حيث ألقى ذلك بظلاله على المرشحين كافة؛ إذ اعترفوا بأهمية الاستقرار عبر المضيق، بينما أكدوا في الوقت ذاته حقّ تايوان في تقرير المصير.

وبالنسبة إلى الحزب التقدّمي الديمقراطي، فقد مثّلت النزعة العدوانية المتنامية للصين صرخة حاشدة لأولئك الذين يناصرون اتخاذ موقف حازم ضدّ إعادة التوحيد. وتعهّد الحزب بتعزيز دفاعات تايوان، وتعميق الشراكات الدولية لمواجهة نفوذ بكين.

من ناحية أخرى، اتّخذ حزب الكومينتانغ نهجًا أكثر تصالحية، ودعا إلى الحوار والتعاون الاقتصادي مع البرّ الرئيسي، معتبرًا أن التعايش السلمي والتكامل الاقتصادي لا يتعارضان مع الحفاظ على الحكم الذاتي لتايوان.

أما حزب الشعب التايواني فحاول أن ينأى بنفسه عن السِّجال التاريخي بشأن العلاقة مع الصين. وبحكم النهج البراغماتي الذي يتبنّاه، فقد انتقد زعيمُه معارضيه لوقوعهم فيما سمّاه مأزق أيديولوجي[7]؛ الأمر الذي أسهم في جذب الكثير من التايوانيين الذين سئِموا الحديث عن الصين. 

جمهور منقسم.. ومشهد سياسي متغير

انعكس السِّجال الانتخابي والانقسامات الحزبية على الناخبين، الذين تحدوهم آمال كبيرة، بينما يسيطر عليهم القلق من المستقبل. واصطدم الناخبون الشباب، الذين انجذبوا إلى الأجندة التقدمية للحزب الديمقراطي التقدمي والتزامه بالهوية المتميزة لتايوان، مع الأجيال الأكبر سنًّا التي تتوق إلى الاستقرار الملحوظ في العلاقات الوثيقة مع الصين. وتبنّى سكان الحضر رؤية الحزب الديمقراطي التقدمي لمستقبل تحكُمه التكنولوجيا ويتمتع بالعولمة، في حين سعت المجتمعات الريفية إلى الحصول على وعود حزب الكومينتانغ بالإنعاش الاقتصادي، والحفاظ على الثقافة.

وعكست النتائج النهائية هذا الانقسام، ولاسيّما في الانتخابات التشريعية، التي أظهرت أيضًا منافسة شديدة. وبرغم فوز الحزب التقدمي بالرئاسة، فقد تراجع في الانتخابات البرلمانية وخسر 10 مقاعد، بينما حقق حزب الكومينتانغ مكاسب كبيرة وحصل على 14 مقعدًا جديدًا، وحصل حزب الشعب على ثلاثة مقاعد[8]؛ وهذا يشير إلى تحول محتمل في السلطة داخل المشهد السياسي في تايوان. فعلى مدى السنوات الثماني الماضية، أعطت سيطرة الحزب الديمقراطي التقدمي على السلطتَين التنفيذية والتشريعية للحكومة قدرة أكبر على تمرير مشاريع القوانين، وإحداث تغييرات مهمّة. ويحمل هذا التحول في طيّاته عواقب كبيرة على سياسات تايوان الداخلية، وعلاقاتها الدولية. 

التأثيرات المحلية

قد يؤدي انتصار "لاي" إلى المزيد من الاستقطاب في المجتمع التايواني، حيث تعمل المعسكرات المؤيدة للاستقلال والمؤيدة للتوحيد على تشديد مواقفها والانخراط في نقاشات ونشاط سياسي متزايد. وهذا الانقسام الداخلي قد يجعل من الصعب على تايوان تقديم جبهة موحدة على الساحة الدولية، ويعيق قدرتها على مواصلة استراتيجية متماسكة وفاعلة في السياسة الخارجية.

وعلى الرغم من التحديات، فقد يوفر فوز "لاي" بعض الإمكانيات لحدوث تطورات تخدم تايوان. ومن الممكن أن يلهم دعمه القوي للقيم الديمقراطية المزيد من التعاون والدعم من قِبل الدول الغربية الأخرى؛ ممّا يعزز التضامن الدولي، والدعم لقيمها الديمقراطية.

إضافة إلى ذلك، فإن تركيز "لاي" على تعزيز اقتصاد تايوان وقدراتها الدفاعية يمكن أن يجعل الدولة الجزيرة أكثر مرونة في مواجهة الضغوط الصينية، وأفضل تجهيزًا لردع أي هجوم عليها. وهذا من شأنه أن يسهم في تحقيق قدر أكبر من الاستقرار والأمن في المنطقة. 

ثانيًا، السياق والبيئة الدولية  

ردود الأفعال

تباينت ردود الأفعال الدولية على نتائج الانتخابات، ولكنها في العموم جاءت مرحِّبة، وأعربت معظم الدول، ولاسيّما المعنيّة بشكل مباشر بالوضع في مضيق تايوان، عن دعمها لتايوان. ولكن الموقف الأكثر أهمية هو من الصين، حيث قالت الحكومة الصينية في بيانها: "تايوان أرض صينية. ونعارض بشدة محاولات استقلال تايبيه عن جمهورية الصين الشعبية". وقد ندّدت تايوان بردّ فعل بكين، وأعربت وزارة الخارجية التايوانية عن "استيائها الشديد وإدانتها" للتصريحات الصينية[9]. وربّما يكون أكثر ردود الفعل المفاجئة هو ردّ فعل الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي أعلن أن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان[10]. ومع ذلك تظل تايوان، التي تعتبرها الصين إقليمًا يتبع لها وجزءًا لا يتجزأ منها، محورًا للتوتر بين الدولتين، وبرغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية، فإن واشنطن تبقى أكبر داعم دولي ومورّد للأسلحة إلى تايوان. أما موقف روسيا فلم يتغير، وقد أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية، ماريا زاخاروفا، أن موسكو تعتبر هذه المنطقة جزءًا لا يتجزأ من الصين[11]. 

التداعيات الإقليمية والدولية

لا شك أن فوز "تشينغ" سيُلقي بظلاله على العلاقات التايوانية-الصينية، وبالطبع على العلاقات بين بكين وواشنطن المنخرطتين في تنافس، بل حالة من الصراع على النفوذ، ليس فقط في آسيا وإنّما في مناطق أخرى من العالم، حيث تخشى واشنطن، والغرب عمومًا، قوة الصين الصاعدة. وفيما يأتي أهم التداعيات المتوقعة: 

1.  تزايد التوترات مع الصين: سبق أن حذّرت الصين من فوز "تشينغ" في الانتخابات، برغم أنه كان نائب الرئيسة السابقة، ووصفته بالحدث الخطير، وشدّدت في أول ردّ فعل لها على أن "إعادة التوحيد مع تايوان حتمية"[12]، تماشيًا مع ما شدّد عليه الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قبل أيام، في خطاب وجّهه إلى الأمة بمناسبة رأس السنة، على أن "إعادة التوحيد" مع تايوان "حتمية". ومع ذلك، فقد اعتبرت بكين أن نتائج التصويت، حيث كان هناك تقارب كبير، تُظهر أن الحزب الديمقراطي التقدمي الحاكم في تايوان "لا يمكنه تمثيل غالبية الرأي العام في الجزيرة". وبصرف النظر عن تفاصيل الموقف الصيني، فلا شك أن بكين لن تقف مكتوفة الأيدي، وسوف تُواصل تحركاتها الرامية إلى تأكيد عزمها ضمّ الجزيرة؛ إذا ما اتخذت أي خطوة فعلية نحو الاستقلال. وفي هذا السياق: 

· قد تُجري الصين مناورات عسكرية أكثر توتّرًا، وواسعة النطاق، بالقرب من تايوان، بما في ذلك الطلعات الجوية والمناورات البحرية والتدريبات بالذخيرة الحية، وهذا من شأنه أن يضغط على المجال الجوي، وقدرات الدفاع البحري لتايوان، ويثير مخاوف بشأن خطر نشوب صراع عرَضي.

· يمكن للصين أن تُكثّف جهودها لعزل تايوان دوليًّا، من خلال حثّ الدول الأخرى على خفض أو قطع العلاقات الدبلوماسية، وسحب الاعتراف بها، ومنع مشاركة تايوان في المنظمات الدولية، وقد يحدّ هذا من وصول تايوان إلى الأسواق العالمية، والموارد، والنفوذ السياسي.

· قد تلجأ الصين إلى أساليب الضغط الاقتصادي، مثل القيود التجارية أو حظر الاستثمار أو مقاطعة السياحة؛ لمعاقبة تايوان اقتصاديًّا، وتثبيط العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة أو الدول الأخرى؛ الأمر الذي يمكن أن يضرّ باقتصاد تايوان، وسُبل عيش مواطنيها.

2.  شكوك حول سياسة "الصين الواحدة": من الممكن أن يشكل موقف "لاي" القوي المؤيد للاستقلال تحدّيًا للغموض الذي طال أمده فيما يتعلق بسياسة "الصين الواحدة". وقد ترفض بكين الدخول في حوار أو متابعة مبادرات عبر المضيق؛ مما يعرّض قنوات الاتصال وآليات التعاون الحالية للخطر. وساعد هذا الغموض في الحفاظ على السلام الهشّ لعقود من الزمن، وقد يؤدّي تآكله إلى زيادة حالة عدم اليقين، والقلق بشأن مستقبل العلاقات عبر المضيق؛ مما يزيد من خطر سوء التقدير، والتصعيد غير المقصود. 

3. احتمالية سوء التقدير ونشوب صراع: لا شكّ أن الأطراف كافة ستحرص على عدم انزلاق الأمور نحو الحرب، ولكن من الممكن أن يؤدّي تصاعد التوترات والغموض إلى سوء تقدير النوايا والأفعال. فعلى سبيل المثال، قد يؤدي التفسير الخاطئ للتحركات أو التدريبات العسكرية، إلى تصعيد غير مقصود، أو حوادث ذات عواقب مدمِّرة. وتمتلك كلٌّ من تايوان والصين قدرات عسكرية متقدّمة. وأي خطأ بسيط، أو سوء تقدير، يمكن أن يؤدي إلى صراع أوسع نطاقًا، وربّما يجرّ معه دولًا أخرى، مثل الولايات المتحدة. 

4. مجال محدود للمناورة: إن موقف "لاي" المؤيد للاستقلال والتزام الصين الثابت بـ"صين واحدة"، لا يتركان مجالًا كبيرًا للتوصل إلى تسوية أو إيجاد أرضية مشتركة بشأن القضايا الحساسة؛ الأمر الذي يجعل من الصعب معالجة النزاعات القائمة سلميًّا، والتوصل إلى اتفاقيات بشأن مسائل مثل التجارة، والتبادلات عبر المضيق، والتعاونَين الأمني و​​الإقليمي. 

التأثير على العلاقات الأمريكية-الصينية

تمثّل تايوان نقطة الخلاف الرئيسية بين الولايات المتحدة والصين. وقد اندلعت التوترات بشأن وضع الجزيرة بشكل متكرر على مدى عقود[13]، خصوصًا مع تزايد توتر علاقة واشنطن مع الصين بشأن قضايا إقليمية ودولية أخرى. وقد يضع فوز "لاي" العلاقات الأمريكية-الصينية في مرحلة أكثر غموضًا، وربّما محفوفة بالمخاطر، وقد يؤدي إلى تفاقم التوتر في العلاقات بين البلدين؛ مما يُجبر الولايات المتحدة على الاختيار بين التمسك بالتزامها بالدفاع عن حليفتها؛ وفي الحقيقة عن نفسها أو مكانتها، وبين الحفاظ على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع الصين.  لذا، تواجه الولايات المتحدة الآن عملية توازن معقّدة؛ حيث يتعيّن عليها أن تتمسك بالتزامها تجاه تايوان من دون استفزاز الصين ودفعها إلى تصعيد خطير. ويجب الآخذ بعين الاعتبار أنه مع تزايد الضغوط الصينية على تايوان، في ظِلّ حكم "لاي"، كما هو متوقع، فإن هذا يضع الولايات المتحدة في موقف صعب، لأن من المحتمل أن يؤدي الدعم الأقوى لتايوان إلى عمليات انتقامية من جانب الصين، ولكن التقاعس عن التحرك قد يُنظر إليه بالمقابل على أنه تخلٍّ عن حليف. وهذا يعني أن إيجاد أرضية مشتركة بشأن تايوان بين الولايات المتحدة والصين سوف يكون أكثر صعوبة في ضوء رئاسة "لاي". وقد يؤدي كل هذا إلى زيادة الاحتكاك والمنافسة بين القوتين العظميين؛ مما قد يؤثر على التجارة العالمية، والأمن، والدبلوماسية.

وبالرغم من ذلك كله، فإن الولايات المتحدة والصين وتايوان تشترك في المصلحة في تجنّب الحرب، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي، وهذا ما قد يدفع باتجاه إيجاد سبل للتعاون في قضايا أخرى، مثل الاقتصاد، ومنع الانتشار النووي، أو تغيّر المناخ، أو الصحة العالمية؛ ما قد يساعد في إدارة التوترات، والحدّ من التصعيد. 

الخلاصة

نتائج انتخابات تايوان في 13 يناير 2024 يبدو صداها أبعد بكثير من صناديق الاقتراع، فقد تترك آثارًا تُهدّد بإعادة تشكيل النظام الإقليمي، وربّما العالمي. فهذه الانتخابات منحت الحزب الديمقراطي التقدمي ومرشحه المؤيد للاستقلال، لاي تشينغ تي، فترة ولاية ثالثة تاريخية. ومع ذلك، هناك حالة أعمق من عدم اليقين، والتوتر، والتوازن غير المستقر بين الوعود والمخاطر. 

وعلى الصعيد الداخلي، تكشف الانتخابات عن انقسام؛ فبالرغم من فوز "لاي"، فإن السباق المتقارب والانقسام التشريعي المستمرّين يسلّطان الضوء على المشهد السياسي المتباين. ويشكل هذا الاستقطاب عقبات محتمَلة أمام الحكم الفعّال؛ الأمر الذي يتطلّب مناورات سياسية وتسويات من أجل جَسر الهوَة الأيديولوجية. ويتعيّن على الإدارة الجديدة أن تعالج التحديات الداخلية المُلحّة التي تواجهها تايوان، بدءًا من ارتفاع تكاليف المعيشة، إلى التفاوت في الدخل.

وعلى المستوى الإقليمي، تقف العلاقات عبر المضيق عند مفترق طرق. ويشير ردّ فعل بكين، الذي لم يكن راضيًا عن فوز "لاي"، إلى تزايد السخط الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة الضغط العسكري أو الإكراه الاقتصادي، إضافة إلى مطالبة للصين الثابتة بتايوان؛ مما يثير شبح تصاعد التوترات، مع احتمال زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.

من جانبها، يتعيّن على تايوان أن تسلك مسارًا دقيقًا يتمثل في التأكيد على هويتها السيادية، وفي الوقت نفسه تسعى إلى إقامة تحالفات إقليمية، وتعزيز الاعتراف الدبلوماسي لموازنة نفوذ الصين.

وعلى المستوى الدولي، سلّطت الانتخابات الضوء على مستقبل تايوان بشكل صارخ. ويعدّ موقف "لاي" المؤيد للولايات المتحدة، وإقامة علاقات أعمق مع واشنطن، مؤشّرَين على إمكانية إعادة ضبط الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة تجاه المنطقة. وهذا التحالف الوثيق بين تايوان والغرب يمكن أن يزيد من استعداء الصين؛ ما قد يؤدي إلى إثارة منافسة جيوسياسية أوسع نطاقًا مع عواقب على التجارة والأمن العالميَّين. 

وأخير وليس آخرًا، لا تُمثّل انتخابات تايوان لعام 2024 تغييرًا في القيادة فحسب، بل ربّما تمثّل نقطة تحوّل في تاريخ البلاد. فهي تُقدّم فرصًا، وفي الوقت نفسه تثير أخطارًا، ويتطلّب ذلك إجراء تحليلات دقيقة ودراسة متأنّية للمسارات المحتملة. وهي أمام تحدي تجاوز الانقسامات الداخلية، والحفاظ على الدعم الدولي، وإدارة العلاقات مع الصين. فإما أن تُبحر السلطة الجديدة بتايوان في هذه الفترة المضطربة نحو قدر أكبر من الحكم الذاتي والاعتراف الدولي، ورّبما الاستقلال، وإما أن تستسلم للضغوط الصينية، وتتراجع عن طموحاتها الاستقلالية.  



[1] Bloomberg, Taiwan Election Live Results, January 13, 2024:

https://www.bloomberg.com/graphics/2024-taiwan-election/

[2] Vaishnavi Pande, Taiwan goes to polls on Saturday: Who are the key parties, candidates and what’s at stake? The Indian Express, January 14, 2024:

https://indianexpress.com/article/world/taiwan-elections-2024-candidates-poll-date-parties-9104524/

[3] Clement Tan, Taiwan’s presidential election is a three-way race. These are the parties vying to replace Tsai Ing-Wen, CNBC, November 28, 2023: https://www.cnbc.com/2023/11/27/taiwan-elections-2024-the-3-parties-vying-to-replace-tsai-ing-wen.html  

[4] Reuters, Taiwan's third party, looking for poll breakthrough, says it is happy to work with others, January 12, 2024: https://www.reuters.com/world/asia-pacific/taiwans-third-party-looking-poll-breakthrough-says-it-is-happy-work-with-others-2024-01-12/

[5] Office of the President, Republic of China (Taiwan), President Tsai, January 01, 2024: https://english.president.gov.tw/Page/40 

[6]  بي بي سي عربي، الصين وتايوان: بعد زيارة بيلوسي، وفد من الكونغرس يصل إلى تايبيه، أغسطس 15، 2022:

https://www.bbc.com/arabic/world-62544510

[7] News Wires, Taiwan’s political parties rally on eve of pivotal presidential vote, France24, January 12, 2024: https://www.france24.com/en/news-wires  

[8] Bloomberg, Taiwan Election Live Results, January 13, 2024: https://www.bloomberg.com/graphics/2024-taiwan-election/ 

[9]   سي إن إن بالعربية، دعتها إلى الاعتراف بالواقع.. تايوان تنّدد برد فعل بكين على نتائج الانتخابات الرئاسية، يناير 14، 2024: https://arabic.cnn.com/world/article/2024/01/14/taiwan-condemns-beijings-reaction-to-election-results

[10] ردّ مفاجئ من الرئيس الأمريكي على فوز المرشح المؤيد لاستقلال تايوان، فيتو جيت، يناير 13، 2024: https://www.vetogate.com/5064412

[11] الشرق الأوسط، روسيا تحذّر من استغلال نتائج انتخابات تايوان في الضغط على الصين، يناير 13، 2024: https://shorturl.at/etuD5

[12]  انتخاب رئيس مؤيد للاستقلال في تايوان يُشعل أزمة مع الصين، ليفانت، يناير 13، 2024: https://shorturl.at/lzEV9 

[13] The New York Times, How Taiwan’s Election Fits Into the Island’s Past, and Its Future, January 14, 2024: https://www.nytimes.com/2024/01/14/world/asia/taiwan-election-china-lai-ching-te.html

 

 


: 15-January-2024

Reviews (0)


       


Related Research

©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.

'