تعقد في العاصمة الأمريكية واشنطن في الفترة من 13-15 ديسمبر قمة تجمع قادة الولايات المتحدة وأفريقيا. وقد اعتبرت الإدارة الأمريكية بزعامة الرئيس بايدن هذه القمة واحدة من أهم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في الأشهر المقبلة. فهي الفرصة الأولى لإدارته لإظهار كيف تنظر إلى مستقبل العلاقات الأمريكية الأفريقية على أرضها، وسط التوتر الجيوسياسي المتزايد مع روسيا والصين والجهود المبذولة لإعادة العلاقات الأمريكية الأفريقية، بعد التوتر الذي شهدته في عهد الرئيس الأمريكي ترامب، بل هي الاختبار الحقيقي للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفريقيا بعد الإعلان الذي تم الإخبار عنه في أغسطس الماضي.
ومن المتوقع أن تناقش القمة قضايا: "الاقتصاد، تعزيز السلام والأمن، تعزيز الالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، بالإضافة إلى الدعوة للعمل بشكل تعاوني لتعزيز كل من الأمن الصحي الإقليمي والعالمي، الأمن الغذائي، أزمة المناخ، التعليم والقيادة الشبابية". فهل ستنجح هذه القمة في رأب الصدع الحادث في العلاقات الأمريكية الأفريقية، أم أنها فقط محاولة لدعم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة دون الخوض في تحديات ليست الولايات المتحدة على استعداد للولوج إليها في الوقت الحالي[1]؟
في هذه الدراسة سنحاول تسليط الضوء على الأسباب الحقيقية لهذه القمة، في ضوء تلك الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، كما سنحاول أن نقترب من الصورة أكثر بتحليل أهداف تلك الاستراتيجية، وآليات تنفيذها، وما هي أهم التحديات التي من المتوقع أن تواجه الأمريكيين في سبيل تطبيق تلك الاستراتيجية. وعلى ضوء تلك التحديات، هل من الممكن أن نستشرف مستقبل القارة في ضوء هذه القمة وهذه الاستراتيجية.
أفريقيا في المعترك الدولي:
تعتبر أفريقيا من أشد القارات تأثرًا، مقارنة بغيرها من القارات، بما يحدث من تحولات في النظم الدولية المختلفة، خاصة تلك النظم التي توالت خلال القرنين الأخيرين سواءً أكانت نظمًا جزئية أم عالمية. ولعل المقارنة السريعة بين أوضاع أفريقيا، فيما قبل زحف الاستعمار الأوروبي وأثناءه وبعد الاستقلال، توضح كيف ظل المصير السياسي والاقتصادي، وإلى حد ما الثقافي، مرتبطًا بما يجري خارج القارة من تغيرات وتفاعلات، وكيف أن الكثير من مشكلات القارة الداخلية الراهنة ذو صلة مباشرة بما تقرره القوى الفاعلة في النظم الدولية التي توالت على العالم في الحقب الأخيرة.
لقد تحولت أفريقيا اليوم إلى مسرح عالمي كبير. إذ تحاول القوى الفاعلة، إقليمية كانت أم دولية، صياغة دور لها من خلالها. ولكن يبدو أن قواعد اللعبة قد تغيرت إلى حد كبير. فالمسرح أصبح أكثر إدراكًا لقواعد اللعبة وكيفية إدارتها، ولم تعد الفواعل الدولية تعامله بالصيغة الأبوية التقليدية السابقة، ولكن تطورت الصيغة لتصبح صيغة استرضائية تشاركية، في ظاهرها على الأقل. من هنا كان التهافت الدولي والإقليمي على القارة الأفريقية لمحاولة حجز مقعد لها، تتمكن من خلاله من استثمار علاقاتها بها في جني بعض من ثمارها التي يبدو أنها لا تنضب. فكان الدور الروسي الصلب أمنيًا واقتصاديًا، والدور الصيني الناعم في جزء منه والاقتصادي الاستثماري في شقه الآخر، بالإضافة إلى الدور الأوروبي الذي يحمل إرثًا طويلًا في التعامل مع القارة الأفريقية وإن كان إرثًا سلبيًا في إدراك العديد من أبناء القارة الأفريقية.
أما الدور الأمريكي فقد أدرك مخاطر هذه المنافسة الساخنة بين كل هؤلاء الفاعلين الدوليين، وبدأ في التعاطي بشكل مختلف مع القارة الأفريقية. وصارت تضع في اعتبارها المستجدات على الساحة الدولية والتطورات في القارة الأفريقية.
أولًا: أسباب الحاجة إلى تعامل أمريكي جديد مع القارة الأفريقية:
تشير المؤشرات إلى أنه من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان أفريقيا تقريبًا، وينمو بمعدل أسرع بكثير من سكان أي منطقة أخرى. فمن المتوقع أن يتجاوز عدد سكان نيجيريا وحدها 400 مليون نسمة بحلول عام 2050 [2]، متجاوزة الولايات المتحدة كثالث أكبر دولة من حيث عدد السكان. كما أن سكان أفريقيا هم أيضًا من الشباب مقارنة بالمناطق الأخرى، مما يعني أنه سيكون لديها قوة عاملة كبيرة في المستقبل. ورغم أن جائحة كورونا قد أدت إلى إضعاف النمو الاقتصادي على المدى القصير، لكن التوقعات طويلة الأجل تشير إلى أن النمو السكاني خاصة في المدن قد يترجم إلى إمكانات اقتصادية واعدة [3]. كما يمكن أن تشكل 54 دولة في أفريقيا كتلة سياسية قوية على المسرح العالمي (في حالة دمج جنوب القارة بشمالها)، وتستطيع أيضًا أن تظهر قدرة متزايدة على العمل في انسجام تام من خلال منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية [4]، خاصة إذا تمكنت البلدان الأفريقية، وخاصة الأكثر نفوذًا، من إيجاد صوت سياسي موحد.
تتزايد المخاوف الأمنية في منطقة الساحل وفي شرق وجنوب أفريقيا على طول المحيط الهندي. فوفقًا لبعض التقديرات، فإن ما يقرب من 70 % من جدول أعمال مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة هو مكرس فقط للسلام والأمن في أفريقيا. أضف إلى ذلك، معاناة العديد من الدول الأفريقية من مشكلة المناطق غير المحكومة، وهي المناطق التي تعجز العديد من الحكومات المركزية عن بسط نفوذها عليه، مما حوّلها إلى ساحة واسعة للعصابات الإجرامية وتجارة المخدرات، بالإضافة إلى الجماعات الإرهابية، وهي الجماعات التي تشاركت فيما بينها لتشكل خطرًا أمنيًا شديدًا على الأمن الإقليمي، بل والعالمي أحيانًا. ليس ذلك فقط، بل إنه وطبقًا للنسخة التاسعة من مؤشر الإرهاب العالمي (GTI 2022) الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام (IEP)، والذي يتضمن رصد تأثير الإرهاب في العالم، تلاحظ ارتفاع عدد الوفيات الناتجة عن الإرهاب في منطقة الساحل (بوركينا فاسو، الكاميرون، تشاد، غامبيا، غينيا، مالي، موريتانيا، النيجر، نيجيريا، السنغال) عشر مرات بين عامي 2007 و2021. وبلغت نسبة الوفيات في المنطقة 35% من إجمالي الوفيات الناتجة عن الإرهاب في العالم عام 2021، مقارنة بنسبة 1% فقط في عام 2007. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت بيئة الإرهاب في المنطقة عدة تغيرات؛ إذ ظهرت جماعات جديدة، واتحدت جماعات أخرى، وتكيفت مع عمليات مكافحة الإرهاب المحلية والإقليمية والدولية. وبسبب تضاريسها الصعبة وحدودها التي يسهل اختراقها، يتمتع القادة المحليون في الجماعات الإرهابية في المنطقة بحرية عمل واسعة النطاق. وفي تحليل سياقات الإرهاب في منطقة الساحل وغربي أفريقيا، كشف التقرير أن الإرهاب كثيرًا ما يحدث بوصفه أداة في سياق الصراع، وخطة من قِبَل الجماعات التي تتطلع إلى إحداث تغيير سياسي. ورصد التقرير عوامل تؤجج الأزمة الحالية في المنطقة، ومنها:
وهو ما مثل دافعًا قويًا للولايات المتحدة، لتطوير استراتيجيتها لمواجهة مثل هذا النوع من التهديدات.
تنخرط الصين في أفريقيا بطرق لا تفعلها الولايات المتحدة، فأفريقيا بالنسبة للصين تمثل مصدرًا لواردات الموارد الطبيعية، كما أنها سوق متزايدة وغير مستغلة نسبيًا للصادرات وللاستثمار، وهي فرصة للشركات الصينية لزيادة فرص العمل واكتساب الخبرات العالمية. ولكن المتتبع للعلاقات الصينية الأفريقية، يلحظ أن تلك العلاقات تمثل أهمية كبرى للدول الأفريقية أكثر من بكين؛ إذ تمثل التجارة الصينية -الأفريقية حوالي 15% من حجم التجارة الكلية لدول القارة الأفريقية، فيما تمثل فقط نسبة 5% من التجارة الصينية. كما ترتبط بكين بعلاقة اقتصادية قوية وهامة مع دولة جنوب أفريقيا، إذ تمثل وحدها ثلث التجارة الأفريقية الصينية مجتمعة، كما تأتي في مقدمة دول القارة التي يتوجه إليها الاستثمار الصيني الخارجي.
ولا تقدم الولايات المتحدة -حتى الآن - بديلًا عن ذلك الدور [6]. وهذا يعني ضرورة تقديم بدائل تنافسية للدعم الاقتصادي الصيني. كما أن الدولتين (الولايات المتحدة والصين) تختلفان جذريًا حول طرق تحقيق الاستقرار والنمو داخل القارة، وتختلفان تمامًا في طبيعة دور القوى الدولية في مبادئ الحوكمة وحقوق الإنسان في أفريقيا[7].
يحرك السياسة الخارجية الروسية تجاه أفريقيا المحددان الاقتصادي والعسكري، والمتجليان في تكثيف المبادلات التجارية وفي زيادة صفقات التسليح والتعاون الأمني في مكافحة الإرهاب. وقد حضرت روسيا بقوة في أفريقيا، من خلال شركاتها الكبرى خاصة في مجال استخراج المعادن واستغلالها. وفي هذا الصدد لا يمكن إغفال دور مجموعة البريكس BRICS (الهند، البرازيل، الصين، جنوب أفريقيا، وروسيا) في مساعدة هذه الشركات على الحصول على امتيازات متبادلة في أفريقيا، مما انعكس إيجابيًا على العلاقات الروسية الأفريقية.
أما في الجانب العسكري، فروسيا بدأت في استعادة مكانتها في أفريقيا كتاجر للأسلحة، مستفيدة من رغبة الدول الأفريقية في تحديث ترسانتها العسكرية، التي اقتنتها خلال فترة الاتحاد السوفيتي السابق. وبهذا أضحت الوكالة الروسية العامة المكلفة بتصدير الأسلحة تتعاون مع 15 بلدًا أفريقيًا[8]. لكن هذا التعاون لا يمثل سوى 2% من جميع الصادرات العسكرية الروسية في العالم. رغم اعتبار روسيا أكبر مصدر للسلاح إلى القارة الأفريقية خلال العقد الماضي وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي للسلام[9].
وهو ما يجعل من اعتماد روسيا على البعد الجيواقتصادي أكثر من البعد الجيوسياسي. فما يجذب روسيا الى أفريقيا هو نفسه ما يجذب باقي الدول الساعية الى بناء دور لها هناك، سواء الدول الغربية أو الصين، وإن كانت روسيا تعاني من تأخر على المستوى التكنولوجي مقارنة بتلك الدول، مما جعل حضور روسيا في أفريقيا يبنى على ثلاثة أسس؛ أولها الأفارقة المبتعثون الذين درسوا في الجامعات الروسية والذي حافظوا على علاقات شخصية داخل روسيا، ثانيها المفاوضات الأفريقية الروسية حول مسألة الديون والتي مكنت روسيا من الولوج إلى الاقتصادات الأفريقية، وثالثها تجارة السلاح والتكنولوجيا العسكرية[10]. إلا أنه لا نستطيع غض الطرف عن الدور الذي تقوم به الشركات الأمنية الروسية الخاصة، وفي مقدمتها مجموعة فاغنر، وخاصة في دول السودان ومالي وليبيا وغيرها، حيث تقترب موسكو من بناء "ممر" لنفوذها الذي يمتد من شرق القارة إلى غربها[11]. وهو ما كان يستدعي وجود استراتيجية أمريكية جديدة للتعامل مع هذه الأوضاع، تبتعد فيها عن الأساليب التقليدية التي سبق ومارستها الولايات المتحدة في القارة الأفريقية في مرحلة الحرب البادرة وما بعدها.
في الفترة الأخيرة توسعت العلاقات السياسية والاقتصادية بل والعسكرية بين أفريقيا عمومًا والشرق الأوسط بشكل كبير. حيث زادت بعض دول الشرق الأوسط من الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها في المنطقة وكذلك في منطقة الساحل. كما استطاعت بعض الدول إيجاد دور عسكري لها؛ سواء من خلال قواعد عسكرية مثل تركيا، أو من خلال استثمارات زراعية وصناعية مثل الإمارات والسعودية، أو دور ثقافي محدد مثل الدور الإيراني خاصة في المجال التعليمي. ولكن هناك قلق من تصاعد هذا الدور من إمكانية تصدير المنافسات والصراعات بين تلك البلدان إلى أفريقيا، وخاصة منطقة القرن الأفريقي مما زاد من زعزعة استقرار الأنظمة السياسية هناك، والقابل للتصاعد في المستقبل، مع تصاعد الدور الإيراني المذهبي في نيجيريا ذات الأغلبية السنية المسلمة.
ثانيًا: استراتيجية جديدة برؤية متطورة:
انطلاقًا من تلك الأسباب التي تعكس تعدد الأيادي الراغبة والطامعة في لعب دور حقيقي، أصدرت الولايات المتحدة استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا، وهي استراتيجية تقع في حوالي 17 صفحة، أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، أثناء جولته الأفريقية الأخيرة في شهر أغسطس الماضي، حاولت من خلالها وضع مجموعة من الرؤى والأفكار، تستطيع بها الولايات المتحدة مواجهة التطورات في القارة الأفريقية، بما ينعكس على عودة هذا الدور للقارة الأفريقية بشكل أكثر تأثيرًا وفعالية. وقد حددت هذه الاستراتيجية لنفسها أربعة أهداف هي:
ووضعت الاستراتيجية ستة مداخل يمكن للولايات المتحدة تطبيقها من أجل تنفيذ تلك الأهداف وهي:
1- زيادة الانخراط الدبلوماسي الأمريكي في المنطقة: أوضحت الاستراتيجية أن الولايات المتحدة ستعزز انخراطها الدبلوماسي في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء من خلال مجموعة من الأدوات، ويأتي على رأسها تمكين سفرائها ومسؤوليها من التواصل مع الجماهير الأفريقية، وخاصة الشباب والنساء بطرق أكثر سهولة وإبداعًا، فضلًا عن تشجيع المزيد من التبادلات الثقافية مع مواطني القارة الأفريقية.
2- دعم التنمية المستدامة والصمود الاقتصادي: أشارت الاستراتيجية إلى أن عمق التداعيات الاقتصادية والاجتماعية السياسية للوباء خلقت حاجة إلى تحسين مرونة الدول والمؤسسات. وأكدت الاستراتيجية أن الإدارة الأمريكية ستعمق تعاونها مع الحكومات والهيئات الإقليمية الأفريقية، بما في ذلك الاتحاد الأفريقي، لدعم التنمية المستدامة والتحول الرقمي. ونوهت الاستراتيجية بأن واشنطن ستدعم الاستثمار في القدرات الأساسية للنظام الصحي، بما في ذلك القوى العاملة والبنية التحتية. كما ستدعم، بحسب الاستراتيجية، جهود تحسين سلاسل التوريد للسلع الأساسية، والحصول على الكهرباء. ولفتت الاستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة ستلعب دورًا قياديًا في تنسيق أنشطة التنمية الإنسانية والاقتصادية للمانحين.
3- مراجعة أدوات التعامل مع الجيوش الأفريقية: وفقًا للاستراتيجية، تعد الجيوش الفعالة والشرعية والخاضعة للمساءلة ضرورية، لدعم المجتمعات المنفتحة والديمقراطية والمرنة ولمواجهة التهديدات المزعزعة للاستقرار في أفريقيا. وفي هذا الإطار، أكدت الاستراتيجية أن واشنطن ستراجع أدوات التعامل مع الجيوش الأفريقية، وخاصة البرامج التي تدعم بناء القدرات المؤسسية اللازمة، ومكافحة الفساد، وتعزيز إصلاحات قطاع الأمن.
4- تعزيز العلاقات التجارية مع دول المنطقة: أكدت الاستراتيجية أن واشنطن ستعمل على تعزيز علاقاتها التجارية مع دول المنطقة، وذلك من خلال التركيز على القطاعات التي تتوافق مع أولويات الولايات المتحدة وتفي باحتياجات شركائها الأفارقة، مثل الأعمال التجارية الزراعية والطاقة والترفيه والرعاية الصحية التكنولوجيا، مع تسهيل المعاملات في القطاعات الحاسمة للنمو الاقتصادي الأفريقي. وستعمل على تحقيقها عبر تسهيل التجارة والهجرة بطريقة شرعية، مع تبادل المعلومات لتأمين حدود الدول الأفريقية، وتعزيز الشراكات بين الجمارك والشركات، وزيادة استخدام تدابير أمن البضائع، وتوسيع مشاركة البيانات مع الشركاء الأفارقة، ومراجعة قانون أجوا (قانون التجارة والتنمية لعام 2000) الذي ينتهي في عام 2025 [12]، ودعم تنفيذ منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية.
5- قيادة عملية التحول الرقمي في المنطقة: أكدت الاستراتيجية أن واشنطن ستقود عملية التحول الرقمي في أفريقيا جنوب الصحراء، من خلال تعزيز نظام بيئي رقمي مبني على الإنترنت المفتوح والموثوق والقابل للتشغيل المتبادل والآمن وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات عبر أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. فضلًا عن ضمان الوصول إلى الإنترنت بأسعار معقولة، وزيادة معدلات البيانات، وخفض التكاليف، مع الدعوة إلى منصات التكنولوجيا المفتوحة مثل Open RAN، لتعزيز البنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية والحوسبة السحابية الآمنة والتنافسية من حيث التكلفة.
6- مساندة جهود التجديد الحضري بالمنطقة: تماشيًا مع التزام الرئيس بايدن بالاستثمار في التجديد الحضري والبنية التحتية في الداخل، أشارت الاستراتيجية إلى أن الولايات المتحدة ستساعد المدن الأفريقية في التخطيط لنموها في القطاعات الحيوية مثل الوصول إلى الطاقة، وتغير المناخ، والتكيف، والنقل، وإدارة المياه، فضلًا عن تعزيز البنية التحتية من خلال تسخير الأدوات والقدرات الحالية المشتركة بين الوكالات لإطلاق الإمكانات الحضرية للمنطقة[13].
ثالثًا: القمة كأول اختبار للاستراتيجية الأمريكية الجديدة:
كما أسلفنا القول، فإن القمة القادمة بين الولايات المتحدة ودول القارة الأفريقية هي أول اختبار حقيقي للاستراتيجية الأمريكية الجديدة، فرغم الإعلان الأمريكي عن تلك الاستراتيجية في إطار تخطيطها لعقد تلك القمة كان الأمر أكثر حساسية في العديد من الملفات، خاصة تلك المتعلقة بالبعد الديمقراطي – الحقوقي في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا، وهو ما يستدعي التساؤل حول قدرة السياسة الأمريكية على الصمود أمام السياسة الواقعية التي تفرض أربعة التحديات، هي:
أ - الموقف الأفريقي:
من وجهة نظر أفريقية، فإن هناك رغبة في تحول هذه الصياغات اللفظية حول الاستراتيجية الأمريكية إلى آليات حقيقية ملموسة، إذ كشفت الحرب الروسية - الأوكرانية النظرة الأمريكية التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح القارة وسكانها، إذ فرضت واشنطن وحلفاؤها عقوبات على روسيا وعلى من يتعامل معها دون استشارة الأطراف المتضررة جديًا من هذه الإجراءات. فلئن كان التضخم على سبيل المثال بلغ في بريطانيا 9% في مايو،2022 فما بالنا بالأوضاع الاقتصادية في أفريقيا، حيث تضرر الاقتصاد الأفريقي بشكل كبير، حتى أعلن الأمين العام لمنظمة الوحدة الأفريقية الرئيس السنغالي ماكي سال من سوتشي الروسية أن "العقوبات المفروضة على روسيا زادت الأوضاع سوءًا"[14]، كما أن حديث بلينكن عن تطلع واشنطن "إلى الدول الأفريقية للدفاع عن قواعد النظام الدولي"[15]، ترددت أصداؤه أفريقيًا مع مخاوف جدية من تحول القارة إلى ساحة خلفية لحرب باردة جديدة بين القوى العالمية الكبرى، لن تعود بكثير من النفع على القارة المتعطشة إلى الاستقرار والتنمية.
ب - دعم الديمقراطية:
تعرضت الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا لاختبار حقيقي في القمة الأفريقية القادمة، وهو خاص بالدور الأمريكي في دعم الديمقراطية، حيث رفضت الولايات المتحدة دعوة أربع دول هي السودان، بوركينا فاسو، غينيا ومالي، وهي الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة دولًا خضعت لانقلابات عسكرية في الفترة الأخيرة ولا تتمتع بشرعية ديمقراطية. كما أنها خضعت لعقوبات سياسية من جانب منظمة الاتحاد الأفريقي. ولكن تبقى هذه الاستراتيجية محل جدل كبير، خاصة مع كون أحد المدعوين لتلك القمة هو الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني الذي يحكم بلاده منذ 36 عامًا وسجله الحقوقي يشوبه كثير من الاتهامات، وهو ما يجعل من قضية الديمقراطية الأمريكية محل جدل كبير يخشى أن تتحول مع الزمن إلى نموذج آخر من Pax Americana، حيث يكون السلام لمن يحقق المصالح الأمريكية دون الاستناد إلى أي معايير قيمية ثابتة. وهو ما تستخدمه قوى عالمية أخرى للدعاية المضادة ضد النفوذ الغربي عمومًا والأمريكي خصوصًا في القارة الأفريقية.
جـ - التحدي الروسي:
تبدو استراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة امتحان آخر متعدد الوجوه، إذ لم يؤدّ إخفاق حلفائها الأوروبيين في منطقة الساحل إلى التشكيك في جدوى المقاربات الغربية في مواجهة التمردات العنيفة في المنطقة، بل إلى التوجه نحو الاستعانة بمرتزقة فاغنر التي أثبتت نجاعتها النسبية، في حين ترافق ذلك مع انقلابات عسكرية تمد يد التعاون إلى موسكو في دول كمالي وتشاد وبوركينا فاسو على سبيل المثال. كما يضع التزام الولايات المتحدة بتعزيز الديمقراطية كأولوية، ولو نظريًا، واشنطن في مأزق تجاوزته موسكو التي لا تكترث لطبيعة نظام الحكم عند بيع الأسلحة مثلًا أو تعزيز الاستثمارات، وهو ما يمنحها ميزة تفضيلية لدى الحكام الأفارقة، ونفوذًا استراتيجيًا متزايدًا، في حين يواجه البيت الأبيض، من جديد، مأزق التوفيق واقعيًا بين الشقين السياسي والعسكري لاستراتيجيته الجديدة.
د - التحدي الصيني:
تتمتع الصين، على عكس موسكو، بملاءة مالية كبرى منحتها القدرة على توسيع نفوذها في أفريقيا عبر سياسة الإقراض والشراكة في مشاريع تنموية ضخمة، تركزت في تطوير البنى التحتية الأفريقية، إذ يبرز في هذا الإطار "مشروع الحزام والطريق" العملاق كإحدى أكبر أدوات الاختراق الصينية للقارة السمراء. ورغم ظروف انتشار وباء كورونا، فقد حافظت بكين على معدلات تبادل اقتصادي وتجاري مرتفعة مع أفريقيا، فبين يناير وسبتمبر من عام 2021 بلغت التجارة الثنائية بين الطرفين مستوى قياسيًا، مرتفعة بنسبة 32.2% على أساس سنوي لتصل إلى 185.2 مليار دولار أمريكي، كما بلغت الاستثمارات الصينية المباشرة في أفريقيا 2.55 مليار دولار في الأشهر التسعة الأولى من 2021 بزيادة 9.9% [16]. إلى جانب هذا، عقدت الشركات الصينية اتفاقيات تتجاوز قيمتها 53 مليار دولار مع دول أفريقية، وبلغ حجم إيراداتها 26.9 مليار دولار أمريكي كأكبر شريك لأفريقيا خلال 12عامًا متتالية، وفقًا لنائب وزير التجارة الصيني تشيان كيه مينغ[17]. ورغم محاولة الإدارة الأمريكية مواجهة نفوذ بكين من خلال تطوير نشاطها الاقتصادي في أفريقيا، بناء على تلك الاستراتيجية خاصة عبر "الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية" والتي أقرها اجتماع مجموعة السبع في يونيو الماضي، من خلال العمل على جمع 600 مليار دولار تلتزم الولايات المتحدة بـ 200 مليار منها لتنفيذ مشاريع لتطوير البنى التحتية المرتبطة بالتحول الرقمي والطاقة وتحديات المناخ، وهو ما يعد النظير الأمريكي لمشروع الحزام والطريق الصيني العملاق. ولكن يبقى مع ذلك أن الإمكانيات الصينية وتشابهها مع الرؤية الروسية تقدم ميزة نسبية للصين، خاصة في الشق المتعلق بالبراغماتية التي تتجاوز الخطاب الأمريكي، الذي قد تُعيقه آليات الديمقراطية وتداخلات بعض مؤسسات اتخاذ القرار هناك خاصة الكونغرس بمجلسيه.
رابعًا: مستقبل الدور الأمريكي في أفريقيا:
وهكذا وأمام هذه الاستراتيجية وتلك التحديات، فإنه من الممكن القول إن الدور الأمريكي يرتبط نجاحه في المستقبل في التعامل مع تلك التحديات في ضوء الآتي:
المراجع
[1] . انظر موقع وزارة الخارجية الأمريكية:
[2]. https://www.worldometers.info/world-population/africa-population/
[3] . المصدر السابق نفسه:
[4] . منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، دليل نظام المستخدمين العموميين، سبتمبر 2019، أفريقي موحد لإنشاء سوق
[5]. https://www.visionofhumanity.org/global-terrorism-index-2022-key-findings-in-6-charts/
[6] نهال أحمد السيد، ترتيب الأوراق من جديد.. هل تتغير السياسة الأمنية الأمريكية تجاه أفريقيا في عهد بايدن؟، 22 فبراير 2021، مركز المسبار للدراسة والبحوث:
[7]. https://www.foreignaffairs.com/articles/africa/2021-10-08/africa-changing-and-us-strategy-not-keeping
[8] . هشام صميض، روسيا والعودة إلى أفريقيا : المحددات والأبعاد، منشورات مؤسسة خالد الحسن، مركز الدراسات والأبحاث، بدون تاريخ، ص7: 9.
[9]. https://www.sipri.org/events/2022/2022-stockholm-forum-peace-and-development
[10] . هشام صميض، مرجع سابق ذكره، ص 3: 5
[11] . عبد القادر محمد علي، استراتيجية أمريكا تجاه أفريقيا.. تسارُع لكبح النفوذين الروسي والصيني، بتاريخ 19 أغسطس 2022، TRT عربي:
https://cutt.ly/FVGHqDB
[12]. https://ustr.gov/issue-areas/trade-development/preference-programs/african-growth-and-opportunity-act-agoa
[13]. U.S. STRATEGY TOWARD SUB-SAHARAN AFRICAN , AUGUST 2022
[14]. عبد القادر محمد علي، استراتيجية أمريكا تجاه أفريقيا.. تسارُع لكبح النفوذين الروسي والصيني، بتاريخ 19 أغسطس 2022 TRT عربي
https://cutt.ly/FVGHqDB
[15] . شركاء حيويون وأولويات مشتركة: استراتيجية إدارة بايدن لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الوزير أنتوني جيه بلينكن، موقع وزارة الخارجية الأمريكية :
[16]. https://comtrade.un.org/data
[17] . الصين وأفريقيا تعززان التعاون التجاري بينهما بالرغم من تفشي الجائحة، وكالة أنباء شينخوا الصينية، بتاريخ 18-11- 2021
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)