من الخطأ النظر إلى التوحد على أنه مرض واحد، كونه في الحقيقة طيف واسع من الاضطرابات، تتشارك جميعها في الصعوبات التي يواجهها الشخص في التفاعل الاجتماعي، وفي التواصل مع الآخرين. هذا بالإضافة إلى سلوك وأفعال لا نمطية، مثل صعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر، وفرط التركيز على التفاصيل، ورد الفعل المبالغ فيه تجاه المثيرات الحسية. وفي الوقت الذي قد تظهر بعض صفات التوحد في مراحل الطفولة المبكرة، إلا أنه غالبا ما يتم التشخيص بالإصابة في مراحل متأخرة.
وتشير التقديرات إلى أن معدل الإصابة بالتوحد حول العالم، تبلغ واحدا في المئة، وهو ما يشكل متوسط بين جميع الدول حسب عدة دراسات، وإن كانت هذه الدراسات قد أظهرت تباينا واضحا في هذه المعدلات، حيث أظهر بعضها معدلات أعلى من ذلك بكثير. وتظل المعدلات الحقيقة للإصابة بالتوحد بين أطفال الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، غير معروفة لحد كبير.
ومؤخرا أثارت الزيادة الملحوظة في معدلات الإصابة خلال السنوات والعقود القليلة الماضية، الشكوك لدى البعض بأن هذا المرض يتعرض حاليا للحالة المعروفة بفرط التشخيص (Overdiagnosis)، وهي الحالة التي يتم فيها خطأ تشخيص إصابة البعض بالمرض، دون أن يكونوا مصابين بالفعل. وهو ما يمكن رده إلى اتساع نطاق ومدى معايير التشخيص، مما يجعل من الممكن تشخيص إصابة أعداد أكبر. كما يمكن أن يكون السبب هو زيادة الوعي بالمرض بين الأسر وأفراد الطاقم الطبي، وهو ما قد يفسر على أن التوحد لم يكن يشخص بالمعدلات الصحيحة في الماضي، أو ما يعرف بنقص التشخيص (Underdiagnosis)، مما يجعل معدلاته الحالية هي المعدلات الصحيحة، كنتيجة لزيادة الوعي والإدراك بهذا المرض.
وتشير الأدلة العلمية إلى عوامل عدة تزيد من احتمالات إصابة الطفل بالتوحد، منها عوامل بيئية، وأخرى وراثية. وإن كانت البيانات الإحصائية، لا تظهر وجود أي علاقة سببية بين التوحد وبين التطعيمات المستخدمة ضد أمراض الطفولة، وبالتحديد التطعيمات المستخدمة ضد فيروسات الحصبة، والنكاف، والحصبة الألمانية. حيث ثبت بالدليل القاطع أن الدراسات التي أشارت قديما إلى وجود مثل هذه العلاقة، كانت دراسات معيبة، لم تتبع النهج العلمي الثابت، ولم تستند إلى أية أدلة علمية مؤكدة.
وتتباين قدرات واحتياجات الأشخاص المصابين بالتوحد، كما أن تلك القدرات والاحتياجات تتغير بمرور الزمن؛ ففي الوقت الذي يمكن لبعض المصابين الحياة بشكل مستقل، يعاني البعض من إعاقات شديدة، تتطلب الدعم والرعاية مدى الحياة، كون التوحد الشديد يترك أثرا عميقا على التعلم والتحصيل الأكاديمي، وعلى فرص العمل والتوظيف، وهو ما يضع عبئا هائلا على الأسرة وعلى الأفراد القائمين على رعاية المصاب. وهو ما يجعل من النظرة الاجتماعية، ومستوى الدعم الذي تقدمه المؤسسات المحلية والوطنية، عوامل فائقة الأهمية في تحديد نوعية الحياة التي يحياها المصابون بالتوحد ضمن المجتمع.
ومثلهم مثل باقي أفراد المجتمع، يحق للمصابين بالتوحد التمتع بأعلى مستويات ممكنة من الصحة الجسدية والعقلية. ولكن رغم هذا الحق البديهي، يظهر الواقع أن المصابين بالتوحد كثيرا ما يعانون من التمييز والوصم السلبيَين، بما في ذلك حرمانهم من الرعاية الصحية، ومن التعليم، ومن فرصة المشاركة والمساهمة في مجتمعاتهم. ففي الوقت الذي يتعرض فيه المصابون بالتوحد لباقي المشاكل الصحية التي يواجهها بقية أفراد المجتمع، يمكن أيضا أن يكون لديهم متطلبات صحية خاصة تتعلق بمرضهم، أو بأمراض أخرى مصاحبة. حيث يمكن أن يكونوا أكثر عرضة للإصابة بأمراض مزمنة ناتجة عن الاضطرابات السلوكية المصاحبة لمرضهم، مثل قلة النشاط البدني وممارسة الرياضة، أو الاعتماد على نمط غذائي غير صحي، كما أنهم يكونون أكثر عرضة للعنف، والإصابات البدنية، وسوء المعاملة من الآخرين.
وهو ما يجعل من الضروري توفر خدمات الرعاية الصحية الأساسية للمصابين بالتوحد، مثل بقية أفراد المجتمع، بما في ذلك التثقيف الصحي وخدمات الوقاية، وتوفر العلاج للاضطرابات والأمراض الحادة والمزمنة. ورغم بديهية هذا الحق، إلا أن الواقع يظهر أن المصابين بالتوحد لا تستوفى احتياجاتهم الصحية بنفس مستوى استيفائها لبقية أفراد المجتمع، كما أنهم يتعرضون للأذى والضرر بمعدلات أكبر مقارنة بأقرانهم وقت الأزمات والطوارئ الإنسانية، ومما يزيد الموقف سوءا بالنسبة لهم بوجه عام، هو انخفاض مستوى المعرفة والإدراك بين أفراد الطاقم الطبي، بطبيعة مرضهم وبخصوصية احتياجاتهم.
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)