في سابقة، ربما كانت هي الأولى من نوعها، قام المدير العام لمنظمة الصحة العالمية نهاية فبراير 2021، بمطالبة الدول الأعضاء في المنظمة الدولية بتجميد إجراءات الحماية التي توفرها قوانين الملكية الفكرية، على صعيد الأبحاث والاكتشافات المتعلقة بالتطعيمات ضد فيروس "كوفيد-19". كون تلك القوانين منعت شركات الأدوية الأخرى والمعامل البحثية في باقي دول العالم، من المشاركة في إنتاج المزيد من الجرعات، وهو ما هدد بإنهاء جهود احتواء الفيروس ووقف انتشاره. وأتت تلك المطالبة بعد تقدم كلٍّ من الهند وجنوب أفريقيا باقتراح لمنظمة التجارة العالمية، بتجميدٍ مؤقتٍ لتطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية على التطعيمات التي تم تطويرها ضد فيروس "كوفيد-19". إلا أن هذا الاقتراح قوبل بمعارضة شديدة من الدول التي تتوطن فيها كبرى شركات الأدوية والعقاقير متعددة الجنسيات، والتي نجح بعضها بالفعل في تطوير التطعيم، واكتشاف أكثر من تطعيم أحياناً، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وسويسرا.
وتُعرّف حقوق الملكية الفكرية على أنها حقوق حصرية، لفترة محددة، تمنحها السلطات لغرض استغلال إنتاج فكري، أدبي أو فني أو علمي أو تقني. وتنقسم حقوق الملكية الفكرية إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول يتعلق بالملكية الصناعية، مثل براءات الاختراعات، والتصاميم والنماذج الهندسية، والعلامات التجارية، والإيرادات الجغرافية، أما القسم الثاني من حقوق الملكية الفكرية، فيتعلق بالإنتاج الأدبي، والفني، ويعرف بحقوق النشر أحياناً. وتلعب حقوق الملكية الفكرية دوراً مهماً في خلق بيئة إبداع في العديد من المجالات، بما في ذلك قطاع الرعاية الصحية، وخاصة في الدول التي تتمتع بإمكانات مالية وتكنولوجية، والقدرة على ابتكار منتجات، يوجد لها سوق رابح للتسويق والبيع. وبسبب تلك العلاقة بين حقوق الملكية الفكرية وقطاع الرعاية الصحية، اعتمدت منظمة الصحة العالمية استراتيجية تهدف إلى مراقبة تأثير التجارة، والملكية الفكرية، في الجوانب العديدة للصحة العامة بين الشعوب والمجتمعات.
ولم يقتصر تأثير تطبيق قوانين الملكية الفكرية على التطعيمات ضد "كوفيد-19"، حيث اصطدمت جهود مكافحة وباء "كوفيد-19" في بداياته، بعجز ونقص حادين في العديد من المواد والمستهلكات والأجهزة الطبية والخدمات الصحية الضرورية. ولكن ربما كان النقص في أجهزة التنفس الاصطناعي، هو الأشد وقعاً والأعظم أثراً. حيث يقدر أن النقص الحاد الذي عانته تقريباً دول العالم قاطبة، الغني والفقير منها على حدٍّ سواء، تسبب في فقدان الآلاف لحياتهم. بل يعتقد أن معدلات الوفيات المرتفعة في الأشهر الأولى من الوباء، يمكن أن يُردَّ جزء كبير منها إلى النقص الهائل في المتوافر من أجهزة التنفس الاصطناعي.
ويُرَدُّ جزء كبير من هذه المشكلة إلى قوانين حقوق الملكية الفكرية، التي رغم هدفها الرامي إلى حماية الإنتاج الفكري والصناعي والتجاري، فإنها تسببت في حرمان نسبة كبيرة من أفراد الجنس البشري من التمتع بفوائد ومزايا العديد من الاكتشافات والاختراقات في المجال الصحي. ولكن في ظل تخطي الأمراض المعدية للحواجز السياسية والجغرافية، وانتقالها بين مناطق ودول العالم المختلفة، أصبحت الكثير من الأمراض التي كانت تصنف سابقاً على أنها أمراض تصيب شعوب العالم الثالث، تتزايد في معدلاتها بين أفراد الدول الغنية وشعوبها أيضاً. هذا التوزيع الجغرافي الجديد للأمراض، يعود جزء منه إلى تزايد الهجرة البشرية خلال العقود القليلة الماضية، وخصوصاً من دول الجنوب إلى دول الشمال، بالإضافة إلى ظاهرة الدفء العالمي، التي سمحت بتزايد الرقعة المناخية المناسبة لانتشار تلك الأمراض. وهو ما من شأنه أن يدفع إلى تخفيف القيود التي تضعها الدول الصناعية على حقوقها الفكرية في مجال الأدوية والعقاقير والأجهزة الطبية.
فالحكمة التي أصبحت تجد عدداً أكبر من الآذان الصاغية حالياً في المجتمعات الغربية، تنص على أنه من الأفضل مكافحة الأمراض المعدية، كالسل الرئوي والإيدز مثلاً، بين شعوب الدول النامية الفقيرة ومجتمعاتها، من خلال توفير الأدوية الضرورية لهم ولو بأسعار زهيدة. بدلاً من حرمانهم من تلك الأدوية، وترك تلك الأمراض تتفشى بينهم، لتصل لاحقاً إلى شواطئ الدول الأوروبية والأمريكية ومجتمعاتها. سياسة الاستباق أو الإجهاض هذه ربما هي الاستراتيجية الأفضل لمكافحة الأمراض المعدية على الصعيد الدولي، وهو ما قد يؤدي لاحقاً إلى تداعي قوانين حماية الملكية الفكرية في المجال الصحي بوجه عام أيضاً.
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)