سعيا نحو تحقيق هدف الألفية للتنمية المستدامة، والرامي إلى خفض الوفيات المبكرة الناتجة عن أمراض بعينها، مثل داء السكري، والأمراض السرطانية، وأمراض القلب والرئتين، مع رفع مستوى الرعاية المتاحة للاضطرابات النفسية والعقلية، أُعلن مؤخرا في مدينة "أكرا"، عن تأسيس مجموعة رؤساء الدول والحكومات (Heads of State and Government Group)، خلال جلسات الحوار الدولي الاستراتيجي حول الأمراض المزمنة وأهداف التنمية المستدامة، برعاية منظمة الصحة العالمية، وحكومتي غانا والنرويج.
ويأتي انطلاق هذا الحوار الاستراتيجي في وقت تُسبب الأمراض المزمنة غير المعدية حاليا في 70 بالمئة من وفيات الجنس البشري، أي ما يعادل 41 مليون شخص سنويا، نتيجة الإصابة بإحدى أنواع الأمراض المزمنة غير المعدية. وهو ما أكده تقرير تقدمت به المفوضية الدولية العليا للأمراض غير المعدية إلى منظمة الصحة العالمية عام 2019. هذه المفوضية الدولية (Independent high-level commission on noncommunicable diseases) كان قد أُعلن عن إنشائها في أكتوبر عام 2017، أثناء انعقاد المؤتمر السادس والأربعين لوزراء الصحة وواضعي ومنفّذي السياسات الصحية في الدول الواقعة في منطقة شرق البحر الأبيض.
ويبدو أن النجاح الذي حققه الجنس البشري على صعيد زيادة مؤمل العمر، تَرافق مع زيادة أخرى ملحوظة في الأمراض المزمنة التي أصبحت تصيب أفراده في العقود الأخيرة من العمر. هذه الحقيقة أظهرتها عدة دراسات، مثل دراسة بريطانية شهيرة (British Cohort Study) تتابع 17 ألف شخص منذ عقد السبعينيات. فحسب آخر البيانات الصادرة عن هذه الدراسة، اتضح أن 34% من المشاركين في الدراسة بين سن 46 و48 عاما، يعانون من مرضين أو أكثر من الأمراض المزمنة. كما تنتشر بين أفراد هذه الفئة العمرية التهابات المفاصل، والسكري من النوع الثاني، والأزمة الشعبية، والتهاب الشعب الهوائية المزمن.
وترتبط الأمراض المزمنة غير المعدية بشكل خاص بما يعرف بعوامل الخطر، والتي كما يدل اسمها، هي العوامل والظروف التي تزيد من احتمالات الإصابة بمرض ما. وأحيانا ما يستبدل هذا المصطلح بمصطلح محددات الحالة الصحية، على أساس أن هذه العوامل والظروف لا تزيد فقط من احتمالات الإصابة بالمرض، بل أحيانا ما تكون سببا خلف خفض تلك الاحتمالات. ويمكن تقسيم عوامل الخطر إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى مجموعة العوامل الأولية، وتتضمن السن، والجنس، والأصل العرقي. أما عوامل الخطر الثانوية، فتشمل: 1- الوضع الاجتماعي والدخل المادي. 2- المكان والموقع الجغرافي. 3- الاستعداد الوراثي. 4- الهوية الجنسية. 5- المهنة أو الوظيفة. 6- الميول الجنسية. 7- مستوى التوتر المزمن في الحياة اليومية. 8- نوعية وطبيعة الغذاء. 9- حجم ومقدار النشاط البدني والرياضي. 10- شرب الكحوليات وتدخين منتجات التبغ. 11- بقية المحددات الاجتماعية للحالة الصحية، مثل الظروف الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية.
وبخلاف عشرات الملايين من الوفيات السنوية، أصبحت الأمراض المزمنة التي ارتبطت في الأذهان لفترة طويلة بالمجتمعات الغنية، تشكل عبئا مرضيا يتزايد ثقله بمرور الوقت على كاهل شعوب الدول النامية والفقيرة. والملاحظ خلال العقود الماضية أن الأمراض المزمنة قد بدَّلت ديارها المعهودة، بديار جديدة يفتقر سكانها للمصادر المالية والنظم الصحية الكفيلة بدرء خطرها والحد من تبعاتها. ويُرَدُّ جزء كبير من هذا الارتحال المرضي إلى عوامل عدة أصبحت قادرة على تشكيل الظروف الصحية في جميع بقاع العالم، ومكَّنت الأمراض المزمنة من احتلال مراكز متقدمة على قائمة أسباب الوفيات.
ومن المنظور الاقتصادي البحت، وإذا خصصنا بالحديث الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية، فتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن الاكتئاب واضطرابات القلق يكلفان وحدهما الاقتصاد العالمي أكثر من تريليون دولار سنويا. والثابت والمؤكد أنه من الممكن تخفيف هذا العبء الاقتصادي بشكل كبير، من خلال الاستثمار في خدمات الرعاية الصحية للاضطرابات العقلية، والتي يعتبر العائد على الاستثمار فيها من أفضل عوائد الاستثمار في مجال الرعاية الصحية، على صعيد تخفيف العبء المرضي بشقيه، الإنساني والاقتصادي. حيث يُقَدَّر أن لكل دولار ينفق على زيادة سعة ونوعية الرعاية الطبية المقدمة لمرضى الاكتئاب واضطرابات القلق، ينجح في تحقيق عائد اقتصادي بقيمة 4 دولارات، في شكل صحة أفضل، وقدرة أكبر على العمل، بإنتاجية أفضل.
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)