مقدمة
ليس حدث الاستقالة أو الانشقاق جديداً داخل الجسم الحركي والتنظيمي للجماعات الإسلاموية الإخوانية، فتاريخ جماعة الإخوان المصرية منذ نشأتها إلى اليوم ليس في أحد وجوهه سوى تاريخ صراعات داخلية تفضي في كثير من الأحيان إلى انفصال أفراد أو انشقاق مجموعات[1]، ولعل ما يحدث اليوم بين مجموعتي محمود حسين الأمين العام للجماعة ومجموعة إبراهيم منير القائم بأعمال المرشد[2]، يعطي المثال الحي على تاريخ الجماعة بعيداً عما تحاول تكريسه من صورة الجماعة المتضامنة المتوهمة من خلال سردية الوحدة والتماسك.
ولم تكن التنظيمات التي تفرعت عن الجماعة الإخوانية المصرية الأم في سائر البلاد العربية بمنأى عن هذه الصراعات الداخلية وما يتبعها من استقالات وانشقاقات، فلم يكن تاريخها في هذا المضمار سوى نسخة مكررة من تاريخ الجماعة الأم. ولم تشذ حركة النهضة في تونس عن هذه القاعدة، فهذه الحركة التي تعود بداية ظهورها إلى أواخر عقد الستينيات من القرن العشرين نشأت متأثرة بجماعة الإخوان المسلمين التي شكّلت أدبياتها مرجعية لها، وارتبطت بها أيديولوجياً وتنظيمياً سواء من خلال أداء البيعة للمرشد العام للجماعة أو من خلال التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين[3]. ورغم بعض الفوارق التي تميّز مسار حركة النهضة الراجعة بالأساس إلى اختلاف الظروف والبيئات بينها وبين سائر الجماعات والتنظيمات الإخوانيّة، فإن مسألة الاستقالات والانشقاقات كانت حاضرة في محطات كثيرة من مسيرة هذه الحركة قبل ما يعرف بـ "الربيع العربي" وبعده، وتعد موجة الاستقالات الأخيرة غير مسبوقة في تاريخها منذ نشأتها سواء من حيث عدد المستقيلين الذي وصل إلى 131 فرداً، أو من حيث مكانتهم الاعتبارية والتنظيمية والتاريخية في الحركة الإسلاموية. فلئن عرفت الحركة في تاريخها القريب والبعيد استقالة بعض أعضائها كأفراد فإن الأمر لم يبلغ المدى الذي بلغه في الآونة الأخيرة.
وتعمل هذه الورقة على البحث في مسألة الاستقالة في حركة النهضة من خلال ثلاثة عناصر: يهتم الأول بالمسألة من زاوية تاريخية من خلال تقصي هذه الظاهرة في أبرز محطاتها التاريخية. ويستجلي العنصر الثاني الظروف والعوامل التي مثلت سياقاً دفع إلى حتمية الموجة الأخيرة من الاستقالات. ويستقرئ العنصر الثالث دلالة هذه الاستقالات ويستشرف مآلاتها من خلال طرح سؤال مركزي: هل تنبئ هذه الاستقالات بتآكل حركة النهضة داخلياً وتنذر بنهاية الإسلام السياسي كحالة تنظيمية في تونس بعد انكشاف إفلاسه أيديولوجياً ومن حيث قدرته على إدارة شؤون الدولة والحكم؟ أم إن الأمر لا يعدو أن يكون توزيع أدوار بين قيادات الإسلام السياسي بغاية إعادة التموقع في الساحة السياسية التونسية المتحركة التي تبدو في طور إعادة التشكّل بعد الزلزال السياسي الذي أحدثته التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية في 25 يوليو 2021.
أولاً: الاستقالات في حركة النهضة من منظور تاريخي
مرت الحركة الإسلاموية الإخوانية في تونس بثلاثة أطوار منذ نشأتها إلى اليوم وقد اتخذت لها في كل مرة اسماً فمن الجماعة الإسلامية التي كانت سرية في عقد السبعينيات مروراً بالاتجاه الإسلامي الذي أعلن تأسيسه علنياً في 6 يونيو 1981 في عقد الثمانينيات وصولاً إلى حركة النهضة منذ عام 1988 إلى اليوم. وقد عرفت الحركة من طور إلى آخر تغييرات تنظيمية من الجماعة الدينية إلى الحزب السياسي وتطور موقعها في الساحة السياسية من دور الاحتجاج والمعارضة إلى دور الحكم، غير أن هذه التغييرات والتطورات لا تحجب ثابتين رئيسيين؛ وهما الارتباط الأيديولوجي بالمرجعية الإخوانية وترؤس راشد الغنوشي للتنظيم في جميع صوره المذكورة، ولم يطرأ تغيير عليهما فالمرجعية الإخوانية فضلاً عن الروابط بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين ثابتة رغم الادعاء بإجراء مراجعات، وزعامة الغنوشي مستمرة، سواء بصفته أميراً للجماعة الإسلامية في صورتها الأولى أو رئيساً لحركة النهضة في صورتها الأخيرة رغم التقطع في بعض الأوقات لأسباب أمنية (كونه هارباً أو مسجوناً). ولئن تمكنت الحركة الإسلاموية من المحافظة على وحدتها التنظيمية ومن بناء صورة الحركة المنظمة والمتماسكة طوال عقود، فإن الباحث في تاريخها يقف عند ثابت ثالث متمثّل في استقالة عدد من المنتسبين إليها في كل طور من أطوارها لدواعٍ وأسباب متعددة، ونرصد فيما يلي أبرز الاستقالات:
إنّ المتأمل في سجل الاستقالات يلاحظ أنها تتعلق في أغلبها بقيادات بارزة في التنظيم ولم تخلُ منها أي مرحلة من المراحل التي مرت بها الحركة الإسلاموية سواء في أوقات العسر والشدة أو ما تسميه المحنة أو في أوقات العنفوان والقوة أو ما تسميه التمكين. ولعل أبرز ما يشد الانتباه في هذه الظاهرة أن الدافع وراء استقالات الكثير من العناصر يعود إلى خلافهم مع رئيس الحركة سواء في توجهاته واختياراته السياسية أو في طريقة تسييره وإدارته لشؤون التنظيم الإدارية والمالية وطريقة اتخاذ القرار داخله وتعكس شعورهم بالتهميش والخيبة بسبب استبعادهم من المناصب، خصوصاً بعد وصول الحركة إلى الحكم، ونادراً ما تعلق الأمر بخلاف أيديولوجي نابع من مراجعة عميقة وجذرية لمرجعية الحركة، بل إن بعضهم عبّر عن تمسكه بالمرجعية الإسلاموية واستنكر ما تشهده الحركة في السنوات الأخيرة من عملية مسخ للهوية، وهو ما يفسر أن هؤلاء المستقيلين لم ينضموا إلى حركات أخرى مخالفة ولم يكوّنوا أحزاباً أخرى (التجربة الوحيدة لرياض الشعيبي باءت بالفشل)، إضافة إلى أن استقالاتهم لم تحدث شرخاً عميقاً داخل جسم التنظيم ولم تؤدِ إلى انقسامه وانشطاره إلى أجسام تنظيمية أخرى، بل إن بعضهم عاد إلى الحركة ما إن وجد إلى ذلك سبيلاً. فهل تكون موجة الاستقالات الأخيرة مغايرة في دلالتها ومآلاتها عمّا سبقها؟
ثانياً: سياقات الاستقالات الأخيرة
أعلن 113 عضواً بتاريخ 25 سبتمبر 2021 استقالتهم من حركة النهضة، وما لبث أن التحق بهم بتاريخ 26 سبتمبر 18 عضواً ليبلغ العدد الإجمالي 131[13]. وتشمل قائمة المستقيلين قيادات بارزة على غرار وزير الصحة الأسبق عبداللطيف المكي، ووزير الفلاحة الأسبق محمد بن سالم، وسمير ديلو، وآمال عزوز، ومنية بن إبراهيم، ونواباً في البرلمان منهم جميلة الكسيكسي، ومعز الحاج رحومة، إضافة إلى أعضاء في مجلس الشورى وفي المكاتب الجهوية والمحلية. وتمثِّل هذه الاستقالات حدثاً غير مسبوق مقارنة بما سبقها من جهة ضخامة العدد ومن جهة توزيعه جندرياً (28 امرأة بنسبة 21.37% من مجموع المستقيلين)؛ إذ لم يسبق في حدود علمنا للمرأة النهضوية أن استقالت في المراحل السابقة[14]، وشموله لقيادات من مراتب متفاوتة في التنظيم، ومن المفيد قبل البحث في دلالة هذا الحدث ومآله أن يتمَّ ربطه بالسياق الذي يحيط به، وهو سياق داخلي يتعلق بما يحدث داخل الحركة من حراك منذ تجربة الحكم في حكومة الترويكا الأولى واحتدمت وتيرته في السنوات الأخيرة، وسياق وطني يتعلق بموقع الحركة في الساحة السياسية وبعلاقاتها مع مكوناتها من جهة، وبتداعيات التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية قيس سعيد في 25 يوليو 2021، والأمر الرئاسي 117 بتاريخ 22 سبتمبر 2021 من جهة أخرى.
بقدر ما مثَّل وصول حركة النهضة إلى سدة الحكم في تصوُّر أنصارها لحظة معبَّأة بمعاني النصر وخطوة على درب التمكين؛ فإن الأمر لم يخل من طرح أسئلة شائكة حول صلاحية أيديولوجيتها وشعاراتها، وحول قدرتها على الاستجابة لأعباء الحكم وإكراهاته، وعلى تلبية مطالب عموم الفئات الشعبية من ناحية ومطامع أعضائها ومنتسبيها الذين عانوا الويلات زمن المحنة، وقدرتها على المحافظة على تماسكها ووحدتها التنظيميَّة. وفي واقع الأمر كان التنازع قائماً، وإن على نحو خافت بين قياداتها التي كانت موزَّعة في السنوات الأولى التي تلت ما يعرف بالربيع العربي بين قيادات المهجر وقيادات الداخل، وكان كل طرف يطالب بنصيبه من غنيمة الحكم ويعتقد أنه الأحق بتصدر المشهد وبتولي المناصب. ولئن أمكن للحركة تجاوز مطبات هذا التنازع؛ فإن إكراهات الحكم من جهة وضغوط القوى الاجتماعية والنخب الفكرية من جهة أخرى قد فجرت تناقضات أخرى داخلها لعل أهمها تناقضان: الأول بين توجهين فكريين؛ توجه يشد النهضة بصفة صريحة ودون مواربة إلى الهوية الإسلاموية الإخوانية والسلفية (مجموعة تضم شخصيات كالصادق شورو والحبيب اللوز)، والثاني، توجه يريد أن يكسو الخطاب النهضوي برداء الديمقراطية وأن يُبقي روابطه بالأيديولوجيا الإخوانية رقيقة، واختار لذلك عنواناً براقاً ومخاتلاً هو الإسلام الديمقراطي والفصل التخصصي بين الإسلام الدعوي والإسلام السياسي. ولئن بدا أن المؤتمر العاشر المنعقد في مايو 2016 قد حسم الأمر لفائدة التوجه الثاني؛ فإن الكثير من القواعد النهضوية ظلت مشدودة إلى التوجه الأول، وهو سبب من أسباب التوتر بين جزء من القيادة والقواعد. وأما التناقض الثاني فهو على أساس طبقي اجتماعي بين مجموعتين: مجموعة راكمت منافع الحكم والثروة وانعكس ذلك على توجهها الأيديولوجي، إذ باتت تتخلى أكثر فأكثر عن الأسلمة الصلبة القائمة على العناوين الكبرى للإسلاموية (الشريعة، الخلافة، الدولة الإسلامية) لمصلحة أسلمة ناعمة تعتمد على الأدوات الاقتصادية والمالية، ونشأ داخل هذه المجموعة الأولى تناقض بين دائرة متنفِّذة تحوم حول رئيس الحركة، ودائرة مستبعدة من مواقع الهيمنة داخل التنظيم، ومجموعة ثانية تضم الفئات الفقيرة والمتوسطة من القواعد التي بات بعضها يدرك القطيعة بينها وبين البرجوازية النهضوية الصاعدة، وأن مهمتها تنحصر في الاستنفار لنصرة الحركة في صراعها مع خصومها أو في المواعيد الانتخابية.
لم تتمكن الحركة من إيجاد الحلول لكل هذه التناقضات وأصبحت مهمة نزع فتيل التوتر بين تلك المجموعات عسيرة، خصوصاً في ظل تعقد شبكة العلاقات فيما بينها وتنامي الصراعات حول مساحات النفوذ والمال والهيمنة داخل التنظيم، وهي صراعات لم تنجح الحركة في إدارتها لسببين: الأول يعود إلى إحكام راشد الغنوشي والدائرة الضيقة القريبة منه السيطرة على أدوات التسيير واتخاذ القرار والموارد المالية وتهميش بقية القيادات المخالفة له. والثاني يتعلق بفشل الحركة في تجربة الحكم وتصاعد الغضب الشعبي عليها والذي ترجمته المظاهرات التي استهدفت مقراتها في 25 يوليو 2021؛ وهو ما أدى إلى توجيه القيادات التي تعدُّ نفسها مهمشة الاتهامات إلى الدائرة المهيمنة بالمسؤولية على الوضع الذي تردت فيه الحركة[15]. ويدرك المتابع للوضع الداخلي أن إرهاصات هذه الاستقالات تعود إلى سبتمبر 2020 عندما وجه 100 قيادي رسالة إلى راشد الغنوشي تحذر من مغبة تجديد ترشحه لرئاسة الحركة في المؤتمر الحادي عشر المؤجل انعقاده على خلاف النظام الأساسي وتطالب بما أسمته التداول القيادي[16]، وردَّ عليهم الغنوشي برسالة مفادها تأكيد دور الزعيم وبيان أن مصلحة الحركة والبلاد تقتضي استمراره في القيادة[17]. وبعد مرور عام على هذا السجال لم تفلح حركة النهضة بفعل تمترس كل طرف وراء موقفه في تجاوز هذه الحالة من الاستقطاب الحاد وانتهى الأمر بالاستقالة الجماعية. وجدير بالذكر أن بعض من وجهوا الرسالة الأولى لم يكونوا ضمن قائمة المستقيلين من أمثال عبدالمجيد النجار، وناجي الجمل، وأسامة الصغير، والحبيب اللوز وغيرهم؛ ما يشير إلى التباين وعدم التجانس التام داخل هذه المجموعة.
إن الحاصل من هذه المعطيات أن السياق الداخلي لحركة النهضة منذ عام 2011 قد تميز بظهور الخلافات إلى العلن، وبصعوبة التحكم في وتيرتها مع مرور الزمن، وتفاقم الصراع على مواقع الهيمنة والنفوذ وآليات توجيه الاختيارات السياسية داخل التنظيم؛ فتحوَّل الأمر إلى أزمة حادة، وقد ازدادت حدتها مع تدهور الأوضاع على الصعيد الوطني وهو ما دفع إلى اتخاذ رئاسة الجمهورية جملة من الإجراءات في إطار التدابير الاستثنائية.
مثَّلت التدابير الاستثنائية المتخذة في 25 يوليو 2021 وفي الأمر الرئاسي 117 في 22 سبتمبر 2021 زلزالاً سياسياً ومنعطفاً تاريخياً بأتمّ معنى للكلمة، إذ أبعدت لأول مرة منذ عام 2011 حركة النهضة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية للدولة، إضافة إلى عزلتها في الساحة السياسية إذ تتجنب القوى السياسية والاجتماعية التواصل معها، بما في ذلك القوى التي تعترض على توجهات وقرارات رئيس الجمهورية بصفتها كانت تقود منظومة فاسدة أزَّمت الأوضاع في البلاد على الصُّعد كافة. وتبدو الحركة الإسلاموية اليوم محاصرة في زاوية ضيقة، فقد فقدت أدوات هيمنتها على أجهزة الدولة وتلاحقها ملفات ثقيلة، سواء سياسياً بمسؤوليتها عما آلت إليه أوضاع الدولة من تدهور اقتصادي، وتأزُّم اجتماعي وعطالة سياسية، أو قضائياً من خلال قضايا تتعلق بما يعرف بالجهاز السرِّي ودفع الشباب التونسي للمشاركة في العمليات الإرهابية في بؤر التوتر، وبتلقي تمويلات مالية أجنبية، أو شعبياً إذ لم تعد شعاراتها وأدبياتها الأيديولوجية تجد صدى لدى أغلب الفئات الاجتماعية، حيث فقد خطابها قدرته التأثيرية والاستقطابية.
لقد شكلت هذه المعطيات سياقاً وطنياً ضاغطاً جعل حركة النهضة معزولة وعمَّق أزمتها الداخلية فتفجرت التناقضات بين أجنحتها المتصارعة، ولم تعد هناك إمكانية لأن تستمر تلك الأزمة في ظل انعدام أفق لحلِّها داخلياً، وانهيار شعبية الحركة وتراجع مكانتها ودورها في الساحة السياسية وفقدانها مقاليد السلطة والحكم ومحاصرتها بالاتهامات والقضايا شعبياً وإعلامياً وقضائياً.
في ظل هذه السياقات الداخلية والوطنية جاءت موجة الاستقالات الأخيرة حاملة معها الكثير من الدلالات حول مصير الحركة الإسلاموية من حيث الوحدة التنظيمية، وحول مصير المجموعة المستقيلة من حيث قدرتها على العمل الجماعي المنظم.
ثالثاً: دلالات الاستقالات الأخيرة ومآلاتها
حمل بيان الاستقالة الجماعية جملة من المعاني التي تكشف بوضوح ملابسات الوضع الداخلي المحتقن وتأثيره في عدم قدرة حركة النهضة على الاستجابة لتداعيات زلزال 25 يوليو، فالمستقيلون وجدوا أنفسهم مضطرين للاستقالة لعجزهم عن "إصلاح" مشاكل الحركة التي حصروها في مشكلة القيادة والتسيير والخيارات السياسية، التي جعلت الحركة معزولة وغير قادرة على العمل المشترك مع بقية مكونات المشهد السياسي، ولحاجتهم إلى مواجهة إجراءات رئيس الجمهورية عادِّين انتماءهم للنهضة عائقاً يحول دون ذلك[18]. فمن الواضح من خلال ذلك البيان أن الأمر لا يتعلق البتَّة بخلاف حول المرجعيات الأيديولوجية أو حول الارتباطات بمنظومة الإسلام السياسي الإقليمية والدولية، بل إن المتابع لخطابات بعض المستقيلين يلمس تمسكاً بمقولات الإسلاموية، وإن على نحو رقيق مثل التشديد على مسألة الهوية، وهم متفقون مع خطاب حركة النهضة الرسمي في اعتبار قرارات الرئيس "انقلاباً"، والمطالبة بعودة البرلمان، وغاية ما في الأمر أنهم اختلفوا مع قيادتها في تقدير طريقة المواجهة. والحاصل أن المستقيلين وحركة النهضة يقفون على الأرضية الأيديولوجية والسياسية نفسها، وأن خلافهم تنظيمي حول المواقع وطرق التسيير وإدارة الموارد. وهو ما يجعل من حدث الاستقالة حمَّالاً لثلاث دلالات مفضية إلى ثلاثة مآلات:
الخاتمة
مثَّل حدث الاستقالة الجماعية لـ 131 عضواً من حركة النهضة حدثاً غير مسبوق في تاريخها وكاشفاً عن الأزمة التي تشهدها في ظل تراجع مكانتها ودورها وشعبيتها، والتي استفحلت أكثر بإبعادها عن دوائر الحكم والسلطة في الدولة. وتبين هذه الأزمة في عمقها ما تعانيه الجماعة الإسلاموية من خلل بنيوي ومشاكل تنظيمية، فهي تريد أن تتحوَّل إلى حزب سياسي مدني تلبية لشروط الاجتماع السياسي التونسي وضغط قواه المدنية الحية، ولكنها تصطدم بأدبيات الجماعات الإسلاموية ومقتضيات الانتظام داخلها القائمة على البيعة والولاء والطاعة للزعيم، فتتفجر التناقضات بين مكوناتها وتزداد حدتها مع تجربة الحكم بصفتها مطية لمراكمة المنافع والمصالح من ناحية ولاختبار إكراهات السلطة من ناحية أخرى، فتحوَّل فشل التجربة إضافة إلى مشاكل التسيير الداخلي، وسوء إدارة صراعات التموقع والهيمنة، إلى عامل تأزُّم داخلي دفع هذه المجموعة للاستقالة. ومهما تكن دلالة الاستقالة ومآلاتها المنتظرة؛ فإنها تنزع وهم هالة القداسة والمثالية عن التنظيمات الإسلاموية وتعرِّي حقيقتها بصفتها تنظيمات تجري عليها سائر قوانين التنظيمات البشرية التي تشقها الخلافات والصراعات والتناقضات على الموارد والمواقع والمصالح، ولاسيما إذا كانت تقوم على عبادة الشخص وتقديس الزعيم والقيادة لا على حكم القانون والمؤسسات والتسيير الديمقراطي، وتكشف زيف ادعاءاتها بالطهورية والتسامي عن الخلاف والتماسك التنظيمي على مبدأ الأخوّة الدينية وعلى مبدأ "حق الاختلاف وواجب وحدة الصف"[21]، وهي ختاماً تطرح سؤالاً شائكاً حول مدى مصداقية حركة النهضة في الترويج لمراجعات حول انخراطها في النظام الديمقراطي، ولدورها في تأسيس الديمقراطية في البلاد في ظل انعدام الديمقراطية داخلها وتشبثها بالإسلاموية كهوية أيديولوجية؟
المراجع
[1]. حسام حربي وأحمد محمد الشرقاوي، الإخوان تاريخ من الانشقاقات.. على الرابط: https://www.elwatannews.com/news/details/4983593?t=push
[2]. رامي شفيق، كيف نقرأ مشهد الانقسام الإخواني في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية؟ على الرابط: https://bit.ly/2ZJRmyo
[3]. عبدالله عمامي، تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي أنموذج النهضة (تونس: الدار التونسية للنشر، 1992).
[4]. عبدالله عمامي، تنظيمات الإرهاب في العالم الإسلامي: أنموذج النهضة، مرجع سابق، ص ص 87-89.
[5]. أحمد نظيف، اليسار الإسلامي في تونس: مقاربة توثيقية. على الرابط: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=293275
[6]. راجع شهادة كريم عبدالسلام أحد المورطين في المشاركة في عملية باب سويقة في ثلاثة أجزاء، على الرابط: https://bit.ly/2Y1qo4z/
[7]. أحمد نظيف، مورو خارج المشهد مرارة الخذلان وغدر الإخوان، على الرابط: https://sawaab-arraii.com/ar/mwrw-kharj-almshhd-mrart-alkhdhlan-wghdr-alakhwan
[8]. محسن أمين، استقالة مورو.. تصدع جديد يشق صف إخوان تونس، على الرابط: https://al-ain.com/article/abdel-fattah-moro-tunisia-renaissance-brotherhood
[9]. دعاء إمام، «كركر».. مُنظّر «النهضة» التائب، المرجع، 29/أغسطس/2018، على الرابط: https://www.almarjie-paris.com/1492
[10]. راجع نص الاستقالة على الرابط: https://bit.ly/3ByBmfM
[11]. حسان العيادي، بعد استقالته من مهامه كلها في الحركة، لطفي زيتون يكشف: النهضة حزب ديني.. وهي عاجزة عن بناء الدولة. على الرابط: https://bit.ly/2Y1tju4
[12]. مصطفى عطية، للتأمل: هذه هي أسباب استقالة زياد العذاري وليست تلك التي ذكرها. على الرابط: https://bit.ly/3CBWN0S/
[13] من بينهم قيادات في الصف الأول.. استقالة 113 عضواً في حركة النهضة، الحرة، 25 سبتمبر 2021، https://arbne.ws/3BsGyl7
[14] باستثناء سميرة العبيدي زوجة صالح كركر. انظر: https://new.acharaa.com/ar/190573
[15] . انظر على سبيل المثال انتقادات سمير ديلو على الرابط: https://bit.ly/3bvnGr7
[16] . انظر الرسالة على الرابط: https://bit.ly/3CCv6ov
[17] . انظر الرد على الرابط: https://bit.ly/3Bxh1Yd
[18] . راجع بيان الاستقالة على الرابط: https://bit.ly/3mxyHyB
[19] . صرَّح عبد اللطيف المكي بأن المستقيلين قرروا تأسيس حزب سياسي. على الرابط: https://bit.ly/3jTJbGZ
[20]. راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 1993)، ص 342.
[21]. راشد الغنوشي، من تجربة الحركة الإسلامية في تونس (لندن: المركز المغاربي للبحوث والترجمة، 2001)، ص 213.
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)