سيطرة طالبان على كامل أفغانستان بعد دخولها أو تسليمها العاصمة كابل يوم 15 أغسطس دون قتال يعد لحظة تاريخية؛ لأنه في الواقع يمثل نهاية أو فشل المشـروع الأمريكي في ذلك البلد الذي تم غزوه قبل عشـرين عاماً تقريباً لأهداف كان أهمها القضاء على حكم الحركة وبناء دولة "ديمقراطية" تحفظ حقوق "النساء" وكرامة الناس، وبالطبع محاربة القاعدة. وبالقدر الذي أوقع فيه الحدث نوعاً من "الصدمة" في العالم، فهو يثير أسئلة كثيرة، بل ومحيرة حول حقيقة ما حدث، وما إذا كان بالفعل أمراً مدبراً أم لا، كما يفتح الباب واسعاً للكثير من الأسئلة عن مستقبل أفغانستان في ظل حكم طالبان التي تعتزم إعلان إمارة إسلامية، وفي الصورة الذهنية تجربتها في الحكم التي أثارت جدلاً واسعاً داخل أفغانستان وخارجها ما كاد ينتهي حتى عاد مجدداً وبقوة، ما سيخلط الأوراق. فماذا حدث، وكيف؟ ومن المسؤول؟ وهل فشل المشـروع الأمريكي؟ وما المتوقع؟ وماذا عن السيناريوهات والفرص والعواقب المحتملة على الصعيدين المحلي والإقليمي؟
أولاً: ماذا حدث وكيف؟
ما كان متوقعاً في شهرين حدث في أقل من يومين!
أصيب الكثيرون حول العالم بالدهشة أو الذهول وهم يشاهدون في بث حي ومباشر دخول قيادات حركة طالبان بأسلحتهم وفي مشهد سريالي القصـر الرئاسي في كابل، حيث جلس أحدهم على كرسي الرئيس السابق أشرف غني، في الغرفة التي كان يدير منها التواصل مع المسؤولين الدوليين، وبدأ بتلاوة سورة الفتح في مشهد يبدو وكأنه يحاكي فتح مكة.
والحقيقة أن دخول طالبان العاصمة كابل بعد 20 عاماً من طردها منها على يد القوات الأمريكية في ديسمبر 2001 في أعقاب هجمات الحادي عشـر من سبتمبر،[1] كان متوقعاً على نطاق واسع، خاصة بعد التقدم الكبير والسـريع الذي حققته الحركة في الأيام القليلة الماضية، حيث سقطت في يدها معظم الولايات وأكبر المدن الأفغانية، وقد حذر الكثير من المسؤولين الأفغان والغربيين من إمكانية سقوط المدينة خلال شهر أو شهرين، بل وتوقع تقييم استخباراتي أمريكي قبل أيام فقط من دخول الحركة المدينة، إمكانية تطويقها خلال 30 يوماً، وسقوطها خلال ثلاثة شهور،[2] ولكن المفاجأة أنها سقطت خلال ساعات ودون قتال، حيث تم تسليم القصر الرئاسي لقادة من طالبان من قبل مسؤول أمن العاصمة والبعثات الدبلوماسية بشكل سلمي.
ولكن ما الذي حدث ميدانياً؟
مع بدء انسحاب القوات الأجنبية النهائي في مايو الماضي، وفقاً للاتفاق الذي وقعته الولايات المتحدة مع الحركة في فبراير 2020،[3] كانت واشنطن وكابل واثقتين بأن الجيش الأفغاني سيخوض معركة قوية ضد طالبان؛ فوفقاً لمعيار القدرات العسكرية والإمكانات اللوجستية فإن القوات الحكومية الأفغانية تتفوق على قوات الحركة كثيراً، حيث يبلغ تعدادها 300 ألف فرد وتملك معدات بمليارات الدولارات أكثر تطوراً من ترسانة طالبان بكثير، ولكنهم عانوا في الحقيقة من جراء الفساد وضعف القيادة ونقص التدريب وانخفاض الروح المعنوية لسنوات. ورغم أن القوات الأفغانية شكلت مقاومة قوية نسبياً هذا الصيف في بعض المناطق، لكنها واجهت طالبان مع بدء الانسحاب الأمريكي دون غطاء جوي أمريكي منتظم أو دعم عسكري.
وقد استفادت طالبان من الروح المعنوية المنخفضة للجيش الحكومي، فعملت على زرع بذور الانهيار بعد توقيع واشنطن للاتفاق معها قبل سحب قواتها بالكامل من أفغانستان. وبالنسبة لطالبان، كانت تلك بداية انتصاراتهم بعد ما يقرب من عقدين من الحرب، بينما كانت بالنسبة للعديد من الأفغان المحبطين خيانة.
وقد استمرت طالبان في مهاجمة القوات الحكومية واتبعوا أساليب متنوعة، من بينها عمليات القتل والاغتيالات، مما خلق بيئة من الخوف، ودفعوا بسـردية حتمية نصـرهم في دعاياتهم وعملياتهم النفسية، وكانوا يحثون الجنود والمسؤولين المحليين برسائل نصية على الاستسلام أو التعاون معهم لتجنب مصير أسوأ، وقد عرضوا على العديد منهم المرور الآمن إذا لم يقاتلوا، بينما تم الوصول إلى آخرين من خلال شيوخ القبائل والقرى.
ومع عدم قدرة القوات الأفغانية على صد تقدم طالبان، حشد العديد من أمراء الحرب المشهورين في أفغانستان والذين يناصبون طالبان العداء ميليشياتهم وتوعدوا الحركة إذا هاجموا مدنهم، ولكن المفاجأة أيضاً أن مدنهم سقطت كذلك دون قتال، بل وتم القبض على بعض أمرائهم، وهرب آخرون لدول المجاورة؛ ما مهد الطريق لطالبان نحو كابل والاستيلاء عليها دون إراقة دماء.
ثانياً: من المسؤول؟
قوات تقاتل بلا انتماء، وأخرى تحارب بخلفية أيديولوجية، وقوة عظمى تنسحب بلا خطة
سقوط كابل بهذه السـرعة والسهولة يثير الكثير من الأسئلة حول من المسؤول عما حدث؟ وأين القوات الأفغانية التي أنفق عليها المليارات وتم تزويدها بأحدث الأسلحة والمعدات؟ هل تبخرت؟ ما هي مكامن قوة الطرف الآخر: طالبان؟ وماذا عن الولايات المتحدة، القوة العظمى؟ لماذا أصرت على الانسحاب رغم تقدم طالبان؟ هل تفاجأة أم تواطأت أم عقدت صفقة؟
لاشك في أنه من الصعب تحميل طرف دون آخر المسؤولية الكاملة عما حدث، فتقدم طالبان السـريع وتمكنهم من إحكام السيطرة على العاصمة والبلاد في فترة وجيزة، يعود لأسباب عدة، أهمها ما يلي:
ربما يكون السؤال الأكبر في خضم كل الأسئلة المتعلقة بما حدث هو: أين القوات الأفغانية التي أُنفق عليها المليارات وزُوِّدت بأحدث الأسلحة والمعدات وتم تدريبيها على يد أفضل الجيوش والخبرات؟ أنفقت أمريكا وحدها ما يقرب مما يزيد على 88 مليار دولار على قطاع الدفاع في أفغانستان منذ عام 2001 وحتى مارس 2021، بينما قدم حلف شمال الأطلسـي (الناتو) مساعدات كبيرة، وتبرع هذا العام فقط بأكثر من 70 مليون دولار من الإمدادات لقوات الدفاع الأفغانية، بما في ذلك المعدات الطبية والدروع الواقية من الرصاص.[4] ولكن مع كل ذلك سقطت 10 عواصم إقليمية في أفغانستان في غضون أسبوع واحد، وتم تسليم أربع منها من دون قتال، بينما سقطت كابل بسلام في ساعات رغم وجود آلاف المقاتلين للدفاع عنها. فما مدى مسؤولية القوات الحكومية؟ هل انهارت فعلاً أم أنها لم ترغب في القتال أصلاً؟
بالطبع هناك تباين في الآراء حول هذه المسألة؛ فقد حمّل الرئيس الأمريكي جو بايدن في أول خطاب له عقب سقوط كابل الرئيس السابق أشرف غني المسؤولية عما حدث، حيث أكد أنه طلب منه أن يعقد اتفاق صلح مع طالبان، ولكنه "رفض الانخراط في الدبلوماسية للتوصل إلى تسوية"،[5] بحجة أن قواته تستطيع محاربة الحركة، بينما حمّل وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، القوات الأفغانية المسؤولية الكاملة تقريباً عما حدث.[6]
وربما يكون من الطبيعي أن تلقي الولايات المتحدة باللائمة على الحكومة والقوات الأفغانية، فالولايات المتحدة وخاصة البنتاغون في وضع حرج. ولكن وفقاً للخبراء، فإن القوات الأفغانية في الحقيقة كانت بالفعل لديها القدرة، والخطأ لا يكمن في التدريب أو المعدات المقدمة لهم، ولكن في فقدانهم الإرادة للقتال. ولاشك في أن حكومة الرئيس السابق أشرف غني تتحمل المسؤولية عن هذا الأمر؛ فالفساد مستشـرٍ في وزارتي الدفاع والداخلية، كما تفتقد قيادة هاتين المؤسستين الكفاءة على نطاق واسع، وقد حذرت هيئة مراقبة الإنفاق على المساعدات الأمريكية في أفغانستان في شهر يوليو 2021 من أنه ليس لدى الجيش الأمريكي وسائل كافية، أو لا توجد بالأساس، لمعرفة قدرة قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية عند الحاجة للعمل بشكل مستقل عن القوات الأمريكية، كما تحدثت مراراً عن الآثار المدمرة للفساد داخل القوات الأفغانية.[7] وتقول مصادر مختلفة إن الشـرطة الأفغانية، التي تم تسليحها وتقاتل من قواعد الخطوط الأمامية، لم تحصل على رواتبها منذ شهور من قبل وزارة الداخلية، وكذلك الأمر بالنسبة لوزارة الدفاع، حيث لم يتم تزويد الجنود والشـرطة بالطعام الكافي أو الماء أو الذخيرة أو الأسلحة. بل وتحدثت مصادر أيضاً عن تعرُّض خطوط الإمداد للسـرقة، وبيعت أسلحة وذخائر ومعدات أخرى في السوق السوداء، ووصل جزء كبير منها إلى طالبان نفسها.
وهناك عامل مهم آخر وهو مسألة الانتماء، حيث تفتقد هذه القوات الحكومية الولاء، فهي تقاتل لصالح جهة أجنبية، ومقابل المال، ومن ثم ليس لديها الرغبة الحقيقية للتضحية.
لا نستطيع أن نتحدث عن أسباب ما وقع دون أن نتحدث عن دور طالبان نفسها، فلاشك في أن ما حققته الحركة من انتصارات ميدانية يعود أيضاً لأسباب تتعلق بقوتها وتنظيمها، وربما الأهم أيديولوجيتها، فهي تقاتل عن عقيدة وتؤمن بأنها تحارب قوة احتلال، وقد كانت تؤكد على ذلك طوال كل هذه الفترة من الصـراع، ولهذا فهي تملك إرادة قوية للقتال. ويمكننا أن ندرك تأثير هذا العامل إذا عرفنا أن عدد مقاتليها يبلغ تقريباً 80 ألف فقط مقارنة بأكثر من 300 ألف جندياً حكومياً، مدعومين طبعاً بالقوات الأمريكية وقوة جوية ضاربة.
ولا شك في أن موقفها الأيديولوجي هذا مع صمود مقاتلي الحركة أمام القوة الأمريكية، إضافة إلى الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها بعض عناصر القوات الدولية ولاسيما قتل المدنيين، سواء بقصد أو غير قصد، أوجد لها تعاطفاً شعبياً، خاصة في المناطق المحافظة والقبلية، هذا فضلاً عن العنصـر العرقي نفسه، حيث تمثل الحركة البشتون، وهم العرقية الأكبر في البلاد ويشكلون نحو 45% من السكان، ولا يمكننا أن نغفل الدور الذي يلعبه هذا العامل، بالإضافة طبعاً إلى عناصر القوة الأخرى التي مكنت الحركة من اجتياح البلاد بأكملها فعلياً في غضون أسابيع، بينما استسلم القادة العسكريون في غضون ساعات.
إن فشل القوات الأفغانية في الدفاع عن كابل وغيرها من المناطق، لا يعفي أبداً الولايات المتحدة من المسؤولية، بل إنها تتحمل المسؤولية الكبرى، وفقاً للكثير من للمراقبين حتى من داخل الولايات المتحدة نفسها. فقرارها بالانسحاب دون أخذ التطورات الميدانية بالحسبان وقبل توقيع اتفاق سلام شامل، يعد من وجهة نظر الكثيرين قراراً خاطئاً، خاصة وأن الحركة لم تلتزم بما تم الاتفاق عليه بموجب الاتفاق الثنائي الذي أبرمه معها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في فبراير 2020 لإنهاء 20 عاماً من الوجود الأمريكي، مقابل تعهد الجماعة بعدم شن هجمات على القوات الأمريكية، وقطع العلاقات مع القاعدة والجماعات الإرهابية الأخرى،[8] والتخفيف من حدة العنف، وتوقيع اتفاق سلام مع الحكومة الأفغانية، ولم يتم الالتزام بأي من هذه الشروط.
ومع ذلك، تمسك الرئيس الأمريكي جو بايدن بالاتفاق، وأكد أن جميع القوات الأمريكية ستنسحب بحلول 31 أغسطس، حتى بعد فشل المحادثات بين الحكومة والحركة التي كانت تجري في الدوحة، بينما كانت طلائع طالبان تدخل العاصمة من كل أبوابها.
والحقيقة أن الموقف الأمريكي هذا - ورغم أن له ما يبرره من جوانب عدة، حيث لا يوجد كما يبدو نور في نهاية النفق - شجع طالبان على المضـي قدماً في مخططها، حيث استغلت الفرصة المناسبة، بينما كانت واشنطن منشغلة بعملية الانسحاب، لتتقدم نحو الولايات بسـرعة ولتحكم سيطرتها على العاصمة مجدداً بعد 20 عاماً من خروجها منها بالقوة.
ثالثاً: هل فشل المشروع الأمريكي في أفغانستان؟
عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان في أكتوبر 2001، كانت البلاد في حالة فوضى بالفعل، حيث تم تدمير هياكلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بسبب سنوات من الحرب الأهلية وسوء حكم طالبان، وكان هناك ثلاثة أهداف معلنة لغزو أمريكا لأفغانستان:
الأول، الانتقام من تنظيم القاعدة بسبب مسؤوليته عن أحداث الحادي عشـر من سبتمبر التي صدمت العالم، كما صدمت الأمريكيين، ودفعتهم لشن ما أطلق عليه الحرب على الإرهاب، وكانت تستهدف بالأساس تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، ولكن برغم مقتل بن لادن في مايو 2011، وبعد مرور عشـر سنوات، فمازال التنظيم قائماً، ولا يستبعد أن يستعيد مكانته في الوضع الجديد، حيث يعد حليفاً تقليدياً لطالبان، وهناك تقارب في الأفكار الأيديولوجيات.
الثاني، القضاء على حركة طالبان والتي كانت تؤوي تنظيم القاعدة، واعتُبرت أيضاً شريكة فيما حصل؛ لأنها رفضت تسليم بن لادن، وبالطبع سواء سلمته أو لم تفعل، فما كان للولايات المتحدة أن تتراجع عن غزو أفغانستان. وبرغم سقوط حكم طالبان خلال شهرين، حيث أُخرجت من كابل في ديسمبر 2001، فلم تنتهِ الحركة واستمرت تقاتل حتى اليوم، وها هي تعود ثانية للحكم بعد عقدين من القتال.
الثالث، نشـر الديمقراطية كصمام أمان ضد التطرف، حيث وعدت الولايات المتحدة بإقامة أفغانستان مستقرة ومزدهرة وديمقراطية. ورغم ما تحقق للأفغان من استقرار نسبي مع وجود حكومات منتخبة وتداول سلمي للسلطة، فإن البلاد عاشت في حالة صراع مستمر، حيث لم تتمكن من تحقيق المصالحة الشاملة، بينما استشـرى الفساد في مختلف أجهزة الدولة، وربما هذا من أهم أسباب الاحتقان الشعبي على الحكومة، وبالطبع تزايد التعاطف الشعبي لطالبان؛ إذ ما كان لها أن تحقق ما حققت لولا وجود حواضن شعبية لها في مناطق واسعة من البلاد.
إذاً بعد عقدين من الاحتلال والانخراط في أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة، والتي قتل فيها عشـرات الآلاف من الأفغان وشرد الملايين، كما قتل الكثير من الجنود الأمريكيين وحتى الغربيين، فقد جاءت كما يبدو لحظة الحقيقة، وهي ملامسة أمريكا هزيمتها، حيث فشلت عملياً في مهمتها واضطرت إلى قبول التراجع السـريع، فما حصل يوم الأحد 15 أغسطس 2021 هو في الحقيقة عنوان لهزيمة أمريكا وفشل مشروعها الذي أنفقت عليه أكثر من تريليوني دولار.[9]
رابعاً: ماذا بعد؟ ما السيناريوهات المتوقعة؟
يتمحور التركيز الآن حول ما الذي ستقوم به طالبان، والسيناريوهات المتوقعة لمستقبل أفغانستان في ظل حكم الحركة، وهذا يدفعنا لاستحضار تجربتها السابقة، وما إذا كانت الحركة قد تغيرت بالفعل أم لا.
هذه هي المرة الثانية التي تدخل فيه طالبان العاصمة كابل لتحكم سيطرتها على البلاد كاملة، فقد كان دخولها الأول في سبتمبر 1996، بعد سنتين تقريباً من إنشاء الحركة على يد مجموعة من الطلبة في خضم الحرب الأهلية التي كانت على أشدها آنذاك بين قادة الجهاد الأفغاني، حيث تمكنت وفي وقت وجيز من السيطرة على البلاد بالكامل.
ولكن الصورة مختلفة كثيراً عما هي عليه اليوم، فدخولهم 1996 كان بالقوة وكانت قد تخللته عمليات انتقام وإعدامات، كما أنها كانت قد تبنت خطاباً ومنهجاً متشددَين في الحكم، خاصة فيما يتعلق بالحريات وحقوق المرأة،[10] بينما دخلت هذه المرة بشكل سلمي، حيث تسلمت المدينة دون قتال، وأعلنت العفو العام،[11] وتبنت خطاباً أقل حدة مما كان عليه قبل عقدين، حيث حاولت طمأنة الأفغان وكذا المجتمع الدولي، وربما يكون في هذا دلالة على رغبتها في الحصول على الاعتراف الدولي بها، وهذا بالطبع أمر لن يكون سهلاً، حيث أكدت العديد من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة، أنها لن تعترف بأي حكومة لا تحترم حقوق المرأة أو تؤوي الإرهاب، ولكنه أيضاً غير مستبعد، حيث يبقى احتمال القبول بها ولو بحكم الأمر الواقع وارداً، خلافاً لما كان عليه الأمر في المرة الأولى، حيث كان هناك إجماع شبه دولي رافض لها، بينما توحي العديد من التصريحات الدولية اليوم بنوع من التودد.
والجانب الآخر للتباين هو أن الظرف الدولي تغير كثيراً جداً، ليس من جهة تقبُّل الحركة ذاتها، بقدر ما هو متعلق بأولويات القوى الدولية، حيث يبدو أن العالم مقبل على مرحلة جديدة من التنافس، وهناك قضايا مختلفة عما كان عليه الأمر قبل عقدين من الزمن، وقد تحدث الرئيس بايدن عن هذه الأولويات، وذكر منها المنافسين الاستراتيجيين لبلاده؛ الصين وروسيا.[12]
هناك مطالب دولية لطالبان بضـرورة وقف إطلاق النار، والعمل على انتقال سلمي للسلطة يمهد لتسوية سياسية شاملة تستوعب كل الأطراف الأفغانية، وقد طالب مجلس الأمن الدولي، بـ"الوقف الفوري للأعمال العدائية كافة في أفغانستان، وتشكيل حكومة جديدة شاملة عبر المفاوضات"، كما توجد دعوات محلية أيضاً في الاتجاه نفسه، وهناك إمكانية للحوار مع بعض الشخصيات والقوى السياسية، وقد تحدثت تقارير إعلامية عن توجه زعيم الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار برفقة الرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية عبدالله عبدالله إلى الدوحة للقاء وفد طالبان؛[13] لبحث تشكيل حكومة انتقالية فيما يبدو، ولكن لا يُتَوقّع أن تقبل الحركة بمثل هذه الحكومة، ولكنها قد تقبل بما سمته حكومة تشاركية، أي حكومة تشكلها وتدعو الآخرين للمشاركة فيها. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع أن تقبل الحركة بنوع من الإدارة المؤقتة خلال المرحلة الانتقالية، ولكن هذا الأمر لن يتضح قبل مرور عدة أيام، حيث لم تتبلور بعد المواقف الدولية، في ظل الفوضى القائمة وتركيز الدول على إجلاء رعاياها وتأمين سفاراتها ومقارّها الدبلوماسية.
في ضوء كل ذلك، فإن سيناريوهات المستقبل تتراوح ما بين التفاؤل والتشاؤم، وذلك على النحو الآتي:
السيناريو المتفائل (بحذر شديد): يستند هذا السيناريو إلى أن الحركة اليوم ربما تكون مختلفة عن تلك التي كانت قبل 20 عاماً، حيث إن رسائل الطمأنة التي بعثتها طالبان في عدة اتجاهات؛ للداخل من بينها العفو العام عن الجميع واستعدادها للمشاركة؛ وللخارج حيث أبدت الاستعداد للانفتاح والتعامل مع الجميع – هذه الرسائل تشير إلى وجود فرصة لانطلاقة جديدة. وفي ظل هذا السيناريو قد تحقق طالبان بعض الاستقرار داخل أفغانستان وقدراً من التفاهم الداخلي، خاصة مع القوى الأخرى التي لديها الاستعداد للتعامل معها، والخارجي خاصة مع دول الجوار. وهنا ستكون الحركة قادرة على تنفيذ ما تعهدت به حتى الآن، سواء فيما يتعلق بتشكيل حكومة تشاركية أو حرصها على علاقات طبيعية مع جيران أفغانستان وعدم السماح باستخدام البلاد كنقطة انطلاق من قبل الجماعات الإرهابية أو التي تهدد أمن المنطقة والعالم، وهذا السيناريو رغم صعوبة تحقُّقِه، ودونه تحديات وصعوبات جمة، يبقى غير مستبعد.
السيناريو الأسوأ: يستند هذا السيناريو إلى أن التغييرات الحالية في سلوك طالبان هي مجرد تكتيك للوصول إلى السلطة والتمكين، وأن طالبان في الحقيقة والواقع اليوم لا تختلف عن أمس كثيراً؛ ولهذا ستحاول طالبان فرض نظام شديد القسوة في أفغانستان، مما يؤدي إلى مزيد من التدهور في الحياة العامة في البلاد، ولا يستبعد أن تتدهور الأوضاع، خاصة إذا فشل الحوار، واتبعت طالبان سياسة القمع والإقصاء؛ ما قد يؤدي إلى تجدد القتال خاصة مع القوى المناوئة لطالبان، ومن ثم لا يستبعد حدوث حرب أهلية مجدداً، وكما كان الحال منذ أكثر من عقدين، سيؤدي ذلك إلى تفاقم أزماتها القائمة، وحدوث أزمة لاجئين كبيرة أخرى تتجاوز تداعياتها السلبية حدود البلاد والإقليم؛ لتشمل المنطقة وربما العالم أجمع.
الخلاصة:
لا شك في أن دخول طالبان العاصمة حدث تاريخي، وهو ليس مجرد نصـر عسكري، بل يعني في الحقيقة هزيمة للمشـروع الأمريكي الذي تم تدشينه بعد سقوط حكم الحركة في ديسمبر 2001، حيث تعرض ذلك المشروع لضربات كثيرة؛ منها الخلافات السياسية والفساد وغيره من القضايا الشائكة، والتي ألقت بظلالها على الواقع الأفغاني. ولكن مع ذلك كله، فإن مستقبل أفغانستان على المحك، وتواجه البلاد تحديات كبيرة. وبرغم أنه من المبكر الحكم على ما ستؤول عليه الأوضاع خاصة وأن طالبان قد أرسلت برسائل طمأنة للداخل والخارج، فإن هناك أسئلة كبرى تواجه الحركة، وأهمها: ما هو تصور طالبان للحكم؟ أو ما طبيعة النظام السياسي الذي ستتبناه؟ وهل ستكون إمارة إسلامية على غرار ما فعلته في السابق؟ وهل ستفتح المجال للتنظيمات المتطرفة وتتحالف مع القاعدة أو داعش، وهو ما سيجعل الاعتراف الدولي بها أو التعاون معها أمراً مستحيلاً؟ وما هو المستقبل الذي ينتظر الشعب في ظل حكمها؟ وماذا عن حقوق الإنسان ووضع المرأة؟ وكيف تنظر الحركة لمستقبل الشـراكة مع القوى الأخرى في البلاد، وخاصة أن هناك أعراقاً وقبائل مختلفة؟ كل هذه أسئلة مفتوحة، والإجابة عنها ستحدد مصير الحركة (والبلاد) داخلياً، وكذلك تعامُل العالم معها، قبولاً أو رفضاً.
المصادر:
[1] "المراحل التي مرت بها أفغانستان منذ سقوط نظام طالبان عام 2001"، يورو نيوز، 28 سبتمبر 2019: https://bit.ly/3yVMbYz
[2] "أفغانستان: حركة طالبان تسيطر على مدينة هرات وأجزاء من قندهار بعد سقوط غزنة"، فرانس 24، 12 أغسطس 2021: https://bit.ly/3jXSlkR
[3] "أمريكا وطالبان توقعان اتفاقا تاريخيا لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان"، رويترز، 29 فبراير 2020: https://reut.rs/2W2qN5j
[4] Lynno O’Donnell, What Went Wrong with Afghanistan’s Defense Forces? Foreign Policy, 11 August 2021: https://bit.ly/3yZ6p3O
[5] بايدن: لا يجب أن نقاتل في حرب رفض الجيش الأفغاني خوضها، سكاي نيوز عربية، 17 أغسطس 2021: https://bit.ly/3m79yen
[6] وزير الدفاع الأميركي يلوم الجيش الأفغاني لعدم المقاومة، بريس نت، 16 أغسطس 2021: https://bit.ly/3g9lx7e
[7] التطورات في أفغانستان: لماذا انهارت القوات الحكومية الأفغانية أمام تقدم طالبان؟، بي بي سي عربي، 16 أغسطس 2021: https://bbc.in/3AIBSHO
[8] أمريكا وطالبان توقعان اتفاقا تاريخيا لانسحاب القوات الأجنبية من أفغانستان، رويترز، 29 فبراير 2020: https://reut.rs/2W2qN5j
[9] Christopher Helman and Hank Tucker, The War in Afghanistan Cost America $300 Million Per Day For 20 Years, With Big Bills Yet to Come, Forbes, 16 August 2021: https://bit.ly/37MIkkX
[10] طالبان تعلن سيطرتها الكاملة على أفغانستان ومخاوف من عودة البطش، دويتشه فيله، 16 أغسطس 2021: https://bit.ly/3yTnSdP
[11] طالبان تعلن "عفواً عاماً" في أفغانستان، البيان، 17 أغسطس 2021: https://bit.ly/3khx7Pd
[12] بايدن: روسيا والصين تريدان منا إنفاق المزيد من الدولارات في أفغانستان، أخبار اليوم، 16 أغسطس 2021: https://bit.ly/2XA33qc
[13] حكمتيار: أتوجه للدوحة مع كرزاي وعبد الله عبد الله للقاء طالبان، المصري اليوم، 17 أغسطس 2021: https://bit.ly/3iU6HDG
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)