يعتبر قطاع الرعاية الصحية من أهم القطاعات الاقتصادية الخدمية، بل يصنف في أحيان كثيرة كأحد أكبر القطاعات الاقتصادية على الإطلاق ضمن الأنشطة الاقتصادية الأخرى، على اختلاف أنواعها. ففي الولايات المتحدة مثلاً، تستهلك نفقات الرعاية الصحية 18% من الناتج القومي الإجمالي. وبناء على زيادة الناتج القومي الأمريكي عن 22 تريليون دولار؛ فإن نفقات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة تبلغ أكثر من 4 تريليونات دولار سنوياً. وإذا ما طبقنا الحسبة نفسها على باقي الدول العالم، وخصوصاً الدول ذات الاقتصادات الكبرى مثل دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فيمكن بسهولة استخلاص نتيجة أن مجمل نفقات الرعاية الصحية حول العالم تبلغ عشرات التريليونات من الدولارات سنوياً.
وبوجه عام تنصبُّ أهداف نظم الرعاية الصحية على تحسين جميع الجوانب الصحية للأفراد والمجتمعات المختلفة، بما في ذلك الصحة العقلية، إضافة إلى السعي نحو خفض الفجوات في مستوى الرعاية الصحية المتاحة للجميع، والحماية والوقاية ضد المخاطر الصحية العالمية، كما هو الحال مع أوبئة الأمراض المعدية. ويتطلب تحقيق هذه الأهداف التمويل الكافي على الصعيد القومي والدولي، وخصوصاً مكافحة الأمراض والأوبئة العابرة للحدود والقارات. مثل وباء فيروس كوفيد-19، الذي تسبب خلال الفترة الممتدة من أول يناير 2020 إلى نهاية ديسمبر 2021، في أعداد وفيات كبيرة تراوحت ما بين 13.3 مليون إلى 16.6 مليون نسمة، من جنسيات وأعراق وثقافات وديانات مختلفة. ولكن اصطدمت جهود دحر وباء كوفيد-19 على الصعيد العالمي، بنقص التمويل الكافي لشراء الدول متوسطة الدخل والفقيرة التطعيمات الطبية، وهو ما هدد بظهور نسخ متحورة من الفيروس، لا تجدي التطعيمات المتاحة أمامها نفعاً.
ومن المؤسف أنه لا يُنفَق على نظم الرعاية الصحية بالتساوي بين أفراد شعوب الدول المختلفة. ففي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم معظم الدول الأوروبية، ودول أمريكا الشمالية، وأستراليا، واليابان، وغيرها من الدول الصناعية الغنية، يبلغ معدل الإنفاق على الرعاية الصحية للفرد 2700 دولار، مع ملاحظة كون هذا الرقم متضخماً نسبياً، بسبب الإنفاق الهائل في الولايات المتحدة. وبوجه عام يبلغ متوسط معدل الإنفاق العالمي للرعاية الصحية على الفرد 639 دولاراً، بينما نجد أن ما ينفق مثلاً على الفرد في "بوروندي" بوسط أفريقيا، لا يبلغ حتى 3 دولارات في السنة؛ ما يجعل من السهل إدراك أن توزيع الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية لا يتسم بالعدالة أو المساواة بين الدول المختلفة.
وهو ما يتضح أيضاً من حقيقة أن 80 في المئة من مجمل الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية ينفق على سكان دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، الذين يشكلون 18 في المئة فقط من سكان الكرة الأرضية، بينما يحظى الـ 82 في المئة الباقون من أفراد الجنس البشري، بـ 20 في المئة فقط من مجمل الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية؛ ما يعني أن الفرد القاطن في إحدى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يحظى بحجم إنفاق على الرعاية الصحية يزيد بأضعاف عما يحظى به الفرد القاطن في دول العالم الأخرى.
وفي الآونة الأخيرة أصبحت أغلبية الدول والمجتمعات البشرية تشهد تغيرات ديمغرافية كبيرة، تتمثل في تفاقم ظاهرة الشيخوخة في المجتمعات، أو ارتفاع متوسط أعمار الأفراد، مع ما تتضمنه هذه الظاهرة من ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية للمسنين، إضافة إلى الزيادة السكانية المطردة، وما يتبعها من زيادة في حجم المصادر المالية المخصصة للرعاية الصحية. وإذا ما أضفنا إلى هذا الانتشار الواسع للأمراض المزمنة، الذي وصل في بعض الأحيان إلى درجة الأوبئة، مثل أمراض القلب والسمنة والسكري، واتساع النطاق الجغرافي لهذه النوعية من الأمراض، وتزايد تغلغلها الاجتماعي بحيث لم تعد مقتصرة فقط على الطبقات الاجتماعية المقتدرة مادياً أو فقط بين سكان الدول الغنية، فسندرك بسهولة أن نظم الرعاية الصحية حول العالم تتعرض في الوقت الراهن لضغوط مالية غير مسبوقة، وهي الضغوط التي تفاقم من أثرها التكلفة الباهظة للتقنيات الطبية الحديثة. وتهدد هذه الضغوط بانهيار مالي لنظم الرعاية الصحية، وتدفع بقضية التمويل الصحي إلى رأس قائمة الأولويات السياسية والاقتصادية للعديد من الدول والمجتمعات، وخصوصاً في الدول النامية والفقيرة، حيث تعتبر من أهم العقبات التي تهدد جهود مكافحة الفقر، وتبطئ من معدلات التنمية.
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)