فرض تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد-19" نفسه كتحد رئيس أمام سياسات كثير من دول العالم بالنظر إلى ما ترتب عليه من تأثيرات وتداعيات تفاوتت حدتها من دولة إلى أخرى، بحسب كفاءة هذه الدولة أو تلك في إدارة الأزمة على المستويين الداخلي والخارجي. ومن هذه الدول تركيا، التي تعد من الدول الأكثر تضرراً من الوباء، حيث تحتل المرتبة التاسعة عالمياً من حيث عدد الإصابات بحصيلة تجاوزت الـ 170 ألف شخص، وعدد وفيات اقترب من حاجز 5 آلاف مع مطلع يونيو 2020. وبينما تعرض النظام التركي، رئيساً وحكومة، لانتقادات كثيرة من الداخل بسبب إدارته لهذه الأزمة بالشكل الذي أدى إلى تفاقمها، فقد سعى هذه النظام المهيمن عليه حزب العدالة والتنمية إلى محاولة توظيف الأزمة لتعزيز وضعه الداخلي المتآكل، وتحقيق مخططاته الخارجية في التوسع والهيمنة الإقليمية.
في هذا السياق، تسعى هذه الورقة إلى بحث تأثير أزمة "كوفيد-19"على سياسات تركيا الداخلية والخارجية من خلال أربعة محاور رئيسة؛ يتناول أولها الأزمات التي كانت تعصف بتركيا قبل اندلاع الأزمة، ويناقش ثانيها سمات إدارة تركيا لهذه الأزمة ومدى نجاحها في مواجهتها، ويبحث ثالثها في تأثير أزمة "كوفيد-19" على الوضع الداخلي في تركيا سياسياً واقتصادياً، ويناقش المحور الرابع تأثير الأزمة على سياسة تركيا الخارجية.
عانت تركيا قبل أزمة "كوفيد-19" من عدد من الأزمات الداخلية والخارجية التي أثرت على سياساتها الداخلية والخارجية؛ فعلى المستوى الداخلي، تعرض الاقتصاد التركي لأزمة كبيرة منذ عام 2018 ترتب عليها تراجع في سعر الليرة التركية الذي انخفض من نحو 3.78 ليرة لكل دولار في يناير 2018 ليصل إلى 6.2 ليرة لكل دولار في فبراير 2020 مسجلة بذلك أسوأ أداء بين عملات الدول الصاعدة.
كما أن تركيا تعتبر الأكثر عرضة للتقلبات بسبب المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن سياساتها[1]، ففي صيف عام 2018 على سبيل المثال أدت تهديدات أمريكية بفرض عقوبات على تركيا بسبب سياساتها في شمال سوريا إلى فقدان الليرة أكثر من 30% من قيمتها خلال أيام، ولم يفلح تجاوز هذه الأزمة وتحسن العلاقات بين البلدين في دفعها إلى التعافي مجدداً.
ويشار أيضاً إلى أن تركيا قد عانت من آثار اقتصادية سلبية أخرى سببتها سياسات حكومية أدت إلى ركود بعض القطاعات كالسياحة، والعقارات، وتراجع البورصة بسبب هروب الاستثمارات الأجنبية، وارتفاع معدلات البطالة التي ارتفعت وفقا لبيانات رسمية تركية من 11% عام 2018 إلى 13.7% عام 2019[2]. كما ارتفعت الديون الخارجية قصيرة الأجل بواقع 118.2 مليار دولار حتى نهاية ديسمبر 2019[3].
كما واجهت تركيا على مستوى السياسة الداخلية عدة أزمات منذ انقلاب عام 2016 الفاشل فاقم حدتها اتجاه أردوغان إلى قمع الحريات الداخلية وتعزيز هيمنته على الحياة السياسية ما أدى إلى حدوث انشقاقات سياسية داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم وقيام بعض قادة الحزب السابقين بتأسيس أحزاب جديدة كنائب رئيس الوزراء التركي الأسبق، علي باباجان، الذي أعلن عن نيته تأسيس حزب جديد. كما مُني حزب العدالة والتنمية بخسارة كبيرة أمام المعارضة في الانتخابات المحلية التي جرت في 31 مارس 2019، والتي فقد فيها كثيراً من البلديات الكبرى على رأسها العاصمة أنقرة وإسطنبول.
ودخلت تركيا كذلك على المستوى الخارجي في مواجهات حادة على جبهات متعددة دفعت بعلاقاتها مع قوى إقليمية ودولية عدة إلى التدهور السريع، وتحولها من سياسة "صفر مشكلات" إلى صناعة المشكلات والأزمات مع الجميع تقريباً؛ ففي الملف السوري، حضرت تركيا بقوة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011 وأصبحت أحد الأطراف الأساسية في هذا الصراع بدعمها للقوى المعارضة والجماعات المتطرفة السورية، الأمر الذي جعلها في كثير من الأحيان في مواجهة مباشرة مع روسيا التي ترى أن تحقيق مصالحها في منطقة الشرق الأوسط يتطلب بقاء نظام الأسد.
وقد تصاعد التوتر بين البلدين في منطقة إدلب بؤرة النزاع وآخر معاقل المعارضة التي تقع شمال سوريا بصورة كبيرة قبل اندلاع أزمة "كوفيد-19" ولا سيما بعد مقتل أكثر من ثلاثين جندي تركي وجرح العشرات خلال هجوم شنته قوات الحكومة السورية المدعومة من روسيا على المدينة، الأمر الذي رأت فيه تركيا انخراطاً روسياً مباشراً في الحرب ضدها، وردّت عليه بمهاجمة القوات السورية الحكومية. وتصاعد التوتر بشكل أثار المخاوف من اندلاع صراع عسكري مباشر بين تركيا وروسيا إلى أن توصل الطرفان إلى اتفاق وقف لإطلاق النار في 5 مارس 2020 بالعاصمة الروسية موسكو[4].
أما في ليبيا فقد اتجهت أنقره إلى تصعيد تدخلها خاصة بعد موافقة برلمانها على إرسال قوات تركية إلى ليبيا مطلع العام الحالي 2020[5]، وتوقيع اتفاقيتين مثيرتين للجدل مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج حول التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا[6]؛ وهما الاتفاقيتين اللتين مهدتا الطريق أمام تدخل عسكري تركي واسع في ليبيا أثارة حفيظة الدول المجاورة، ولا سيما أن هذا التدخل ركز على تقديم الدعم لميليشيات إسلامية متطرفة تسيطر على العاصمة طرابلس، وسعى بالأساس إلى فرض الهيمنة التركية على هذا البلد، وإتاحة المجال لأنقرة للاستفادة من مصادر الغاز والطاقة الضخمة في منطقة شرق البحر المتوسط.
كما حاولت تركيا توظيف "ملف اللاجئين" في صراعها مع أوروبا للحصول منها على أفضل الامتيازات ممكنة، مما ساهم في توتير علاقاتها معها، ولا سيما مع سعى الرئيس أردوغان إلى محاولة صرف الانتباه عن خسائره في إدلب من خلال تصعيد أزمة اللاجئين السوريين على الحدود اليونانية، حيث دفعت بالآلاف منهم للحدود مع اليونان لزيادة الضغط على الاتحاد الأوروبي لتقديم دعم أكبر له سواء عبر تأييد عملياته العسكرية في شمال سوريا وخصوصاً في إدلب، أو عبر محاولة الحصول على المزيد من الأموال في ظل تراجع الاقتصاد التركي وهذا ما اعتبرته الدول الأوروبية ابتزازا لها الأمر الذي أدى إلى تعميق الفجوة بين تركيا والدول الأوروبية.
كما شهدت علاقات تركيا بالولايات المتحدة موجات من التوتر وصلت إلى حد تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتدمير الاقتصاد التركي على خلفية العمليات العسكرية التركية ضد الأكراد شمال سوريا. كما توترت العلاقات أيضاً بسبب إصرار تركيا على تركيب منظومة الصواريخ الروسية "إس 400" التي شكلت مصدر قلق لواشنطن لأنها تتعارض مع أنظمة الناتو الدفاعية وتشكل تهديداً لهذه المنظومة.
وحدث الأمر نفسه في العلاقات الخليجية التركية مع تدخل تركيا غير المحايد في الأزمة الخليجية – القطرية، واصطفافها إلى جانب الدوحة وإقامة قاعدة عسكرية فيها، إضافة إلى استمرار دعمها للجماعات المتطرفة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بشكل جعل تركيا تبدوا معزولة إقليمياً ودولياً بسبب سياسات رئيسها غير المتوازنة والمتضاربة.
كشف وباء كورونا المستجد عن تخبط كبير وسوء إدارة حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا للأزمة، تعرض على إثرها لانتقادات حادة في الداخل، وذلك لأنه وضع الاعتبارات الاقتصادية فوق صحة وسلامة المواطن التركي وهذا ما ظهر جلياً في قراراته المتعلقة بالإجراءات الاحترازية المبتورة التي جاءت دوماً متأخرة[7].
وفي هذا السياق يمكن رصد أبرز سمات إدارة أنقرة للأزمة في ما يلي:
كما اتهمت المعارضة التركية نظام أردوغان باستغلال أزمة وباء كورونا المستجد من أجل التلاعب بالسلطة التشريعية، وذلك بعد أن قام بتعليق جلسات البرلمان لمدة 45 يوم بعدما مرر القوانين التي يريدها ضمن إجراءات مواجهة فيروس كورونا المستجد ومن بينها قانون "العفو العام" الذي يعفي عن عدد كبير من المسجونين المعرضين لخطر الإصابة، لكنه استثنى منه الصحفيين وأصحاب الرأي والسياسيين المعارضين له[14].
أدت جوانب القصور التي شابت إدارة حكومة العدالة والتنمية للأزمة إلى تفاقم الوضع الصحي في تركيا، فعقب الإعلان عن أول حالة إصابة يوم 11 مارس 2020، بدأت أعداد الإصابات تتضاعف، ليقترب إجمالي عددها من حاجز 50 ألف إصابة بعد نحو ثلاثة أسابيع فقط، قبل أن يصل إلى نحو من 170 ألف إصابة مطلع يونيو 2020، لتحتل تركيا المركز التاسع عالمياً في عدد الإصابات، وهو الأمر الذي أثارة انتقادات داخلية واسعة وجعل العديد من المراقبين في الداخل يعربون عن مخاوفهم من سيناريو "على الطراز الإيطالي" مع استنفاد طاقة المستشفيات على استقبال المرضى وارتفاع معدل الوفيات[15].
وربما النقطة الإيجابية الوحيدة التي حققتها أنقرة هي انخفاض معدل الوفيات بين المصابين من خلال التركيز على فئة كبار السن والأشخاص المصابين بأمراض مزمنة، حيث سجلت تركيا رسميا أقل من 4700 وفاة من أصل حوالي 170 ألف حالة إصابة حتى مطلع يونيو 2020، ما يعني معدل وفيات قدره نحو 2,8%، وهذا المعدل أدنى من الدول المجاورة مثل اليونان بـ 6%، وإيران بـ 5.4%، والعراق بـ 3.5% بحسب جامعة جونز هوبكينز الأمريكية التي تستند في تقديراتها إلى الأرقام الرسمية الصادرة عن هذه الدول[16].
وقد سعت حكومة العدالة والتنمية على مستوى هذه النقطة تحديداً إلى محاولة تضخيمها بصورة مبالغ فيها من خلال محاولة إظهار إدارتها للأزمة بأنها الأكثر كفاءة مقارنة مع الدول الأوروبية، ومحاولة استغلالها سياسياً لتخفيف حدة الضغط الداخلي عليها، وتحسين شعبية الحزب المتدهورة في تركيا، حيث اتّخذ الرئيس أردوغان من أزمة "كوفيد-19" فرصة دعائية من أجل ترويج الخطاب السياسي لحزبه الحاكم ونجاحاته في تأسيس نظام صحي قوي وإدارته الناجحة للأزمة، وهي سياسة دأب على اتباعها دائما في استثمار الأزمات لصالح رفع أسهم شعبيته، في الوقت الذي سعى فيه إلى التقليل من شأن جهود البلديات الخاضعة لإدارة الأحزاب المنافسة[17] بالرغم من أن أزمة كهذه تتطلب تضافر كل الجهود الوطنية.
وقد دفعت هذه السياسة الأوضاع الداخلية إلى مزيد من التأزيم والاستقطاب السياسي بين الإسلاميين بقيادة حزب العدالة والتنمية والأحزاب الأخرى العلمانية والمعارضة، وامتدت هذه الأزمة إلى داخل حكومة العدالة والتنمية نفسها، مع إعلان وزير الداخلية استقالته التي رفضها أردوغان. كما أظهرت استطلاعات الرأي العام تراجع ملحوظ في شعبية أردوغان، حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز أوراسيا لأبحاث الرأي العام في مايو 2020 أن عمدة إسطنبول المعارض أكرم إمام أوغلو سيهزم الرئيس التركي الحالي أردوغان بهامش مريح إلى حدّ ما إذا تمّ عقد تنافس رئاسي بينهما في الظروف الراهنة، وأعرب ما يزيد عن 39% من المشاركين في الاستطلاع أنهم سيصوتون لـ أردوغان، في حين فضّل 45.5% إمام أوغلو[18].
كما أظهر استطلاع آخر للرأي أجراه مركز إسطنبول للدراسات الاقتصادية تراجع نصيب حزب العدالة والتنمية من الأصوات بنحو 7% ليصل إلى 35.8% مؤكدا أن شعبية أردوغان هي الأكثر تراجعا بين الشخصيات السياسية في تركيا[19].
وعلى المستوى الاقتصادي، لم تكن إدارة أردوغان بأفضل حال، فعلى الرغم من تأخره في فرض إجراءات الإغلاق ومسارعته إلى فتح الاقتصاد في مايو 2020، وقيامه بتقديم حزمة مساعدات لرجال الأعمال قدرها 15 مليار دولار، فإن الأزمة الاقتصادية تفاقمت ولا سيما أن حزمة المساعدات لم تمثل سوى مبلغاً ضئيلاً من اقتصاد ناتجه السنوي الإجمالي 800 مليار دولار، ولم يقدم شيئاً للعاملين الذين فقدوا وظائفهم، بل دعا المجتمع لجمع تبرعات لهم[20].
كما ساهمت أزمة "كوفيد-19" في تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية في البلاد، حيث أظهرت بيانات وزارة التجارة التركية مطلع يونيو 2020 أن الصادرات التركية تراجعت بنسبة 41% تقريبا في مايو 2020، وأن العجز التجاري اتسع بنسبة 78.7% على أساس سنوي إلى 3.36 مليار دولار في الشهر نفسه[21]. كما أظهرت بيانات رسمية نشرتها هيئة الإحصاء التركية يوم 3 يونيو 2020 ارتفاع التضخم في تركيا في مايو بـ 11.4% على أساس سنوي.
كما تعرضت السياحة لضربات قوية، فقد شهدت أعداد السائحين انخفاضا بنسبة وصلت إلى أكثر من 50% خلال الشهور الأربعة الأولى من العام الحالي إلى 4.3 مليون سائح من 8.7 مليون سائح خلال الفترة نفسها من العام 2019[22]؛ بالإضافة إلى شح العملة الصعبة في تركيا، وتراجع الإنتاج وحركة البيع والربح وهروب الاستثمارات، ومع وجود 172 مليار دولار ديون خارجية مطلوب سدادها هذا العام الوضع الذي قد يعاني معه النظام التركي الحاكم أزمةً اقتصادية ومالية خانقة خلال النصف الثاني من هذا العام.
لقد ساهم سوء إدارة نظام أردوغان لأزمة تفشي وباء كورونا المستجد على المستويات السياسية، والاقتصادية والصحية إلى تفاقم أزمة هذا البلد الداخلية، وزادت من ضعف شعبيته السياسية في الداخل، ومع استمرار تفاقم الأزمة ستكون تركيا مرشحة بقوة للخروج من قائمة أقوى 20 اقتصادًا عالميًّا ومزيد من الأزمات الداخلية، وهذا سيكون له انعكاسات على المشهد السياسي التركي على الصعيد الداخلي تتمثل ربما في انتهاء هيمنة نظام أردوغان وحزب العدالة والتنمية على الحياة السياسية في تركيا في انتخابات 2023 أو قبل ذلك إذا جرت انتخابات مبكرة.
دفعت أزمة "كوفيد-19" وما خلفته من تداعيات كبيرة الكثير من دول العالم للانكفاء على ذاتها مؤقتا لمواجهة هذه الأزمة وتقليل خطرها داخلياً، لكن النظام التركي تحرك في الاتجاه المعاكس، محاولاً استغلال هذه الأزمة وتوظيفها في خدمة تعزيز أهدافه الجيوسياسية وتعزيز نفوذ تركيا الإقليمي، مدفوعا في ذلك برغبة أساسية تتمثل في محاولة الهروب من المشكلات الداخلية السياسية والاقتصادية التي تحاصره في الداخل وتقليل الضغط الداخلي عليه عبر تحقيق انتصارات مُتوهمة في الخارج.
وفي هذا السياق، سارت السياسة التركية في مسارين متعارضين: الأول هو محاولة استغلال الأزمة لتعزيز علاقات أنقرة بحلفائها وبعض الدول الأخرى من خلال ما يمكن وصفه بـ "دبلوماسية المساعدات لمواجهة أزمة وباء كورونا المستجد"، والثاني هو تصعيد تدخلاتها المثيرة للتوتر وفي العديد من الملفات، ولا سيما الملف الليبي والملف السوري وملف الهجرة.
أ- دبلوماسية المساعدات الإنسانية: تحت شعار" الإنسانية أولا" الذي أطلقته أنقره في ظل أزمة تفشي وباء كورونا المستجد، وحاجة العديد من الدول إلى المساعدات الطبية، حرص الرئيس أردوغان على استغلال هذه الفرصة وتوظيفها لخدمة أهدافه الخارجية من خلال تقديم المساعدات الطبية، على الرغم من أن بلاده تعد إحدى أكثر الدول المتضررة من انتشار الفيروس. وبالنظر إلى قائمة الدول المتلقية للمساعدات التركية تظهر أنها تحمل في جوهرها أبعادا استراتيجية وسياسية تتجاوز الإطار الإنساني.
فعلى سبيل المثال قدمت تركيا مساعدات إلى إسرائيل، والولايات المتحدة، والدول الأوروبية لتهدئة التوتر مع هذه البلدان والذي أضر بالمصالح التركية[23]. كما قدمت مساعدات إلى بعض الدول الأفريقية لخدمة المشروع التركي التوسعي في دول القارة، وقدمت مساعدات إلى إيران، والدول الحليفة لها أو التي تريد استقطابها إلى صفها في العالم العربي مثل تونس والجزائر والعراق ولبنان وليبيا (حكومة الوفاق)[24]. وهذه المجموعات من الدول توضح كيف سعت أنقرة إلى استغلال الأزمة لكسر حالة العزلة التي تعانيها منذ سنوات بسبب سياسات رئيسها المثيرة للجدل.
ب- تعزيز الانخراط في الصراعات والأزمات الإقليمية: استغلت أنقرة انشغال المجتمع الدولي بمكافحة انتشار وباء كورونا المستجد في تحقيق مطامع رئيسها الإقليمية، ولا سيما في الملف الليبي، من خلال زيادة الدعم العسكري المقدم لحكومة الوفاق الليبية والميليشيات التابعة لها، مستغلاً الاتفاق المثير للجدل الذي وقعه مع رئيس حكومة الوفاق فايز السراج، والذي جاء في شكل مذكرتي تفاهم بين حكومتي البلدين؛ الأولى حول التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، والثانية حول السيادة على المناطق البحرية.
وقد كثفت أنقرة، في هذا السياق، من تحركاتها الداعمة لحكومة الوفاق عن طريق تزويد الميليشيات التابعة لها بالسلاح المتطور، وعبر إرسال أعداد كبيرة من المرتزقة السوريين والمتطرفين إلى الأراضي الليبية في إطار ما بات يعرف باسم سياسة "سورنة ليبيا"، ضاربة عرض الحائط بنتائج اجتماع برلين، وكل القرارات الدولية التي تحظر على الدول التدخل في الأزمة الليبية أو خرق الحظر المفروض على صادرات السلاح للفرقاء الليبيين[25].
كما صعدت تركيا من مستوى التوتر مع الدول المجاورة لها في منطقة شرق البحر المتوسط، ولا سيما قبرص واليونان ومصر، في إطار سعيها إلى الاستحواذ على مصادر الطاقة في هذه المنطقة، حيث استأنفت أنشطتها غير المشروعة للتنقيب عن النفط والغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص ومياهها الإقليمية، مستغلة مذكرة التفاهم المشبوهة التي وقعتها مع حكومة الوفاق الليبية بهذا الشأن، الأمر الذي أثار ردود فعل أوروبية وقبرصية غاضبة لما في ذلك من انتهاك صريح للقانون الدولي وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار فيما هدّد الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات ضد أنقرة باعتبار أن أنشطتها تهدد الأمن الإقليمي قبالة سواحل قبرص التي جددت بدورها اتهامها لتركيا بانتهاك الشرعية الدولية وممارسة القرصنة في شرق المتوسط[26].
وفي الملف السوري، صعدت تركيا تدخلها العسكري في هذا النزاع، ولا سيما مع اشتعال الصراع حول مدينة إدلب السورية، وإن كانت حدة التوتر تراجعت مؤقتاً بعد توصل تركيا وروسيا إلى اتفاق بشأن قواعد إدارة الصراع في هذه المنطقة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، حيث عادت تركياً إلى توظيف ورقة اللاجئين السوريين في مواجهة أوروبا، عبر إرسال الآلاف منهم إلى الحدود اليونانية دون حماية من وباء كورونا أو مراعاة لأي أبعاد إنسانية، فقط لتحقيق بعض المكاسب السياسية.
عكست أزمة انتشار وباء كورونا المستجد في تركيا حالة التخبط الشديد الذي يعتري السياسة التركية وسلّطت الضوء على عيوب نظام أردوغان الذي فشل في إدارة الأزمة في الداخل فاتجه إلى تصعيد بعض الأزمات الخارجية لا سيما في ليبيا لصرف النظر عن مشكلات بلاده الداخلية.
وبصرف النظر عن نتائج هذه المغامرات الخارجية غير المحسوبة للنظام التركي، فإن فشل إدارته لأزمة هذا الوباء، والتأثيرات الإنسانية والاقتصادية التي خلفها على الشعب التركي، دفعت بشعبية أردوغان وحزب العدالة والتنمية إلى التراجع بصورة كبيرة، بشكل قد يجعل حقبة أردوغان في حكم تركيا على مشارف نهايتها.
[1] " تحليل: ترامب وأروغان يدفعان الاقتصاد التركي نحو الهاوية"، موقع دي بليو الإخباري الألماني، 20 أكتوبر 2019. على الرابط: https://p.dw.com/p/3RYDN
[2] " قفزة بالبطالة التركية مع تفاقم أزمة الاقتصاد"، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 21 مارس 2020.
[3] " اضطراب الاقتصاد التركي يتفاقم مع تدهور الليرة وتعاظم الديون"، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 21 فبراير 2020.
[4] الحرب في سوريا: اتفاق روسي تركي على وقف إطلاق النار في إدلب," بي بي سي", 5 مارس 2020, من خلال الرابط التالي:
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-51730835
[5] البرلمان التركي يؤجّج الحرب في ليبيا, صحيفة البيان,3 يناير 2020, من خلال الرابط التالي: https://www.albayan.ae/one-world/arabs/2020-01-03-1.3742803
[6]"اتفاقية السراج ـ أردوغان تضع السيادة الليبية تحت تصرّف تركيا"، صحيفة العرب، لندن، 15 ديسمبر 2019.
مستجدات كورونا.. أحدث أخبار الفيروس حول العالم,سكاي نيوز عربية,19 مايو2020, من خلال الرابط التالي: -[7]
[8] خالد الزعتر، "فيروس كورونا والحالة التركية"، موقع بوابة العين الإخبارية، 24 مارس 2020، على الرابط: https://al-ain.com/article/turkey-coruna-virus
-[9] تركيا تعلن اكتشاف أول حالة إصابة بكورونا،"سكاي نيوز عربية"،11 مارس 2020 من خلال الرابط التالي:
[10] " مجلة نيويوركر: تركيا تشهد أسرع معدل تفشي كورونا بالعالم"، موقع العربية نت، 6 أبريل 2020، على الرابط: https://ara.tv/gvaap
[11] "تركيا تشيد بفعالية مستشفياتها في مكافحة كوفيد-19"، موقع فرانس 24 الإخباري، 28 مايو 2020.
[12] " التعامل مع أزمة كورونا يجبر وزير الداخلية التركي على الاستقالة"، موقع دي دبليو الإخباري الألماني، 12 أبريل 2020. على الرابط: https://p.dw.com/p/3aoNR
[13] " كورونا في تركيا: فيروس يقود لمزيد من الرقابة على الصحافة"، موقع دي دبليو الإخباري الألماني، 21 أبريل 2020. على الرابط: https://p.dw.com/p/3bDhy
[14] - معارض تركي: أردوغان يستغل كورونا للتلاعب بالسلطة التشريعية، العين الإخبارية، 16 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي:
https://al-ain.com/article/turkish-erdogan-legislative-powers
[15] "كيف نجحت تركيا في الحد من انتشار وباء كوفيد-19 والتخفيف من تداعيات الفيروس؟"، موقع يورونيوز الإخباري، 28 مايو 2020، على الرابط: https://arabic.euronews.com/2020/05/28/how-turkey-could-succeed-fighting-coronavirus
[16] المرجع السابق.
[17]حكومة أردوغان والاستثمار السياسي في أزمة كورونا، أحوال، 3 أبريل،2020، من خلال الرابط التالي: https://ahvalnews.com/ar/hkwmt-ardwghan-walastthmar-alsyasy-fy-azmt-kwrwna/fy-almq
[18] " استطلاع رأي: إمام أوغلو سيُطيح أردوغان في أيّ سباق رئاسي مُحتمل"، مجلة أحوال تركية، 31 مايو 2020 على الرابط: https://ahvalnews.com/ar/asttla-ray-amam-awghlw-syutyh-bardwghan-fy-ayw-sbaq-ryasy-muhtml/almardt-altrkyt
[19] مخاوف أردوغان من المنافسين قد تدفعه لإجراء انتخابات مبكرة، صحيفة الشرق الأوسط، 27 أبريل 2020 من خلال الرابط التالي:
https://bit.ly/2Bmdnae
[20] محمد فراج أبو النور، " أردوغان في خدمة «كورونا»"، صحيفة الخليج، الشارقة، 23 أبريل 2020.
[21] "عجز تجارة تركيا يرتفع 79% على أساس سنوي في مايو"، مجلة أحوال تركية، 2 يونيو 2020. على الرابط: https://ahvalnews.com/ar/jz-tjart-trkya-yrtf-79-ly-asas-snwy-fy-mayw/aqtsad
[22] " تدابير لمرحلة ما بعد كورونا والسياحة في شلل كامل"، مجلة أحوال تركية، 22 مايو 2020، على الرابط: https://ahvalnews.com/ar/tdabyr-lmrhlt-ma-bd-kwrwna-walsyaht-fy-shll-kaml/azmt-kwrwna
-[23] عبد اللطيف حجازي، كيف وظّفت تركيا تفشي فيروس كورونا خارجيًّا؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 30 أبريل 2020، على الرابط: https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5556
[24] المرجع السابق.
[25] "«تركيا إردوغان» تؤجّج الحرب في ليبيا"، صحيفة الشرق الأوسط، لندن، 23 مايو 2020.
[26] -عبد اللطيف حجازي - كيف وظّفت تركيا تفشي فيروس كورونا خارجيًّا؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 30 أبريل 2020، من خلال الرابط التالي https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/5556
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)