مقدمة[1]
بتحليل الأدبيات التي تحلل
وتدرس جماعات الإسلام السياسي عمومًا، وجماعة "الإخوان المسلمين" على
وجه الخصوص، يتبين لنا أن قضية تَمَثُّل المسلمين من غير المنتمين لفكر الإسلام
السياسي، والتي يمكن رصدها وتحليلها من خلال خطاباتهم ونصوصهم التأسيسية، هذه
القضية نادرًا ما يتم تناولها عند دراسة هذه الجماعات؛ وذلك لأسباب عديدة، من أهم
هذه الأسباب أن هناك تيارًا عريضًا من الباحثين - لا سيّما من الباحثين الغربيين -
يطابقون بين الإسلام كدِين، وبين تأويل الجماعات الإسلاموية للدين الإسلامي، متجاهلين
بذلك تيارات أخرى مهمة على الساحة الإسلامية، كتيار التجديد العقلي … إلخ. ومن
المعروف عن هذا التيار - أي التيار الغربي المتعاطف مع الإسلاموية - أنه يُرَوِّج
لفكرة مُفادها أن نشأة هذه الجماعة هي رد فعل هوياتي إسلامي تجاه محاولة استلاب
الهوية الحضارية - الثقافية الإسلامية من قِبَل المستعمر الغربي السابق، أي إنه رد
فعل مشروع ومتفهم. ومن ثَمَّ، فإن هذا التيار لا ينشغل بتحليل خطاب الإسلامويين
حول الآخر، الذي هو "المسلم غير الإسلاموي".[2]
في هذا السياق، فإن هذه الدراسة المكثفة تهدف في المقام الأول إلى رصد أهم مظاهر تَمَثُّلَات المسلمين من غير المنتمين لفكر الإسلام السياسي، والتي تظهر في بعض أهم النصوص المُؤَسِّسَة للإسلام السياسي، لا سيّما في صيغته الإخوانية. ولكي نفهم نظرة العالم المؤسسة لتلك التَمَثُّلَات كان من الضروري أن يركز الجزء الثاني من تلك الدراسة على عرض وتحليل نظرة العالم Weltanschauung التي تقوم عليها تلك النصوص، والتي يُبْنَى عليها بعد ذلك ما يمكن أن نطلق عليه السردية الإخوانية.
أولًا: تَمَثُّلَات
المسلمين من غير المنتمين إلى فكر الإسلام السياسي في النصوص المُؤَسِّسَة للإسلام
السياسي
"الآخر" -
بالنسبة إلى الإسلامويين - ليس بالضرورة هو الإنسان الغربي، وهو ليس أيضًا الإنسان
غير المسلم كما يروجون، بل إن "الآخر" - حسب نظرة الإسلامويين - كان ولا
يزال هم أصحاب الاتجاهات الأخرى من المسلمين، بمن فيهم هؤلاء الذين يؤكدون على
الاستقلال الثقافي والحضاري للمسلمين، مع تأكيدهم في الوقت ذاته على الفصل بين
الدين والدولة[3].
من هذا المنطلق نلاحظ أن
الخطاب الإسلاموي يقوم ببناء صورة ذهنية للمسلم غير المنتمي إلى الإسلام السياسي،
باعتبار أنه "آخرُ مُعَادٍ ومرفوضٌ". هذه الصورة الذهنية ويتم بناؤها من
خلال عملية عقلية تسعى إلى تنميط المسلم غير الإسلاموي وكأنه الآخر العرقي أو
الإثني؛ إذ إن الإسلاموية - شأنها شأن سائر الطوائف الدينية - تقوم بادئ ذي بدء على
تأسيس "تماسك بنيوي" بين المنتمين إليها؛ بغرض ضمان تماسكها، ويتم ذلك
عن طريق فرض منظور معين للدين على أعضائها أولًا، ثم على الآخرين من المسلمين
العاديين ثانيًا، باعتبار أن هذا المنظور هو حده الذي يمثل حقيقة الدين. وهي - أي
الإسلاموية - تمارس هذا الأمر حتى قبل أن تفكر في خطاب الآخر الديني، حيث يجري -
من جهةٍ - إظهار تمثيلها الحصري للإسلام، كما يجري من جهةٍ أخرى - وبالتوازي -
تشويه بقية التيارات الأخرى التي يتبناها المسلمون من غير الإسلامويين. ومن
البديهي، بل ومن الشائع، أن يجري استغلال الموروث من أجل تحقيق ذلك.[4] وبناء على ذلك فإن الجماعة تدخل في عداء وجودي ومعرفي دائم، وينعكس
هذا العداء في صورة تعاملات استعلائية، قد تصل إلى حد العنصرية تجاه الآخر المسلم.
على سبيل المثال، فإن حسن
البنا - مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر - يُصنف المسلمين على حسب ردود فعلهم
الأولية تجاه الجماعة إلى أربع فئات: مؤمن ومتردد ونفعي ومتحامل، ثم ينتهي بالجزم بأن
من يظل منهم يعادي الإخوان بعد وصول دعوتهم إليه فهو عدو لله. وفي الإطار نفسه يُقَسّم
يوسف القرضاوي المسلمين - من غير الإخوان - إلى ستة أنواع فيقول: "أولئك
الذين يعارضون دعوة الإخوان، إمّا أنهم يتجاهلون حقيقته؛ أو أنهم عملاء لقوى
معادية للإسلام وأمته، وإمّا أنهم عبيد الفكر الغربي، أو أسرى فلسفته، أو أنهم
وجدوا في دعوة الإخوان عائقًا أمام سرقاتهم وامتيازاتهم، وإمّا أنهم وجدوا في دعوتهم
عائقًا لرغباتهم المحرمة[5]".
ثم يذهب القرضاوي إلى حد
تكفيرهم وتشويههم بالكلية، بقوله: "أولئك الذين يعارضون دعوتنا يعارضون الإسلام،
لكنهم أذكياء جدًا أو جُبناء جدًا لعدم قول ذلك بشكل صريح، خوفًا من الكشف عن
حقيقتهم، فهم يَدَّعُون أنهم مسلمون بحملهم أسماء مسلمين، لكنهم معادون للإسلام،
إنهم لا يريدون أن يحكم الإسلامُ، وأن تحكم الأمةُ العالَمَ، وأن تعود الدولة الإسلامية
من جديد، أمّا من يعارض تلك الدعوة من العلماء المسلمين - من غير الإخوان - فهم "علماء
السلطة أو وكلاء الشرطة[6]".
جديرٌ بالذكر أيضًا أن النصوص
المؤسسة للإسلاموية ترسخ وتعزز في الذهنية العامة للإسلامويين صورة ذهنية غاية في
السلبية عن المسلم غير الإسلاموي. فهو على مستوى علاقته بالغرب (خائنٌ، وكيلٌ
للغرب، يسيطر عليه الغرب، غربيُّ الهوية، عبدٌ للغرب وأفكاره، أداةٌ للمؤامرة
الغربية)، وهو على مستوى منظومته الأخلاقية (فاسدٌ ومنحلٌّ)، وعلى مستوى
علاقته بالإسلام (ملحدٌ، معادٍ للدين، ضد الإسلام، معادٍ للمشروع الإسلامي، ضد
القيم الإسلامية، لا مرجعية إسلامية لديه، علمانيٌّ، وعلمانيٌّ راديكاليّ).[7]
ومضمون هذا الخطاب يؤدي
بلا شك إلى نوع من "التماسك البنيوي" في خطاب الإسلاموية حول المسلم
العادي، وهو يقوم على موروث الإسلاموية، من حيث كونها طائفة لها تفسيرها الخاص
للدين الإسلامي، ذلك التفسير الذي يُصِرُّ على ربط الدين بالمشروع السياسي، ويستهدف
فرض تأويلهم للدين بوصفه سلطة سياسية، بعد أن يكون قد حُوِّلَ إلى سلطة دينية. ولا
يمكن أن يتحقق ذلك إلَّا بالشحن ضد الآخر - أي ضد المسلم غير الإسلاموي - وذلك
لسببين: أولًا لأنه العقبة الأكبر في طريق تَسَيُّد الإسلاموي المشهديْن الديني
والسياسي، وثانيًا لأنه العقبة الكؤود في طريق مصادرة الإسلاموي للدين بالكلية (الذي
يسعون إليه حثيثًا من خلال تحويل رؤيتهم للدين إلى مطلق يحل محل الدين).
في المقابل، فإن
الإسلاموية تُشْبِع حاجة منتسبيها إلى إسلام قادر على تقديم إجابات بسيطة وفورية،
في عالم بالغ التعقيد وسريع التغير، وذلك بإضفاء صفة "الثبات" على كل ما
هو متغير بطبيعته. ومن ثم نجد أن إسلاموية الإخوان المسلمين - على سبيل المثال -
تتألف من قائمة راسخة من القناعات العقائدية غير القابلة للنقاش، والتي يلتزم بها
مؤيدوها بشكل حرفي، فهم "أصحاب الإسلام الحقيقي"؛ ليس لأنهم يتوافقون
معه فحسب، بل إنهم هم الذين يُجسدونه تجسيدًا. ومن هنا فإن السلطة المعيارية ينبغي
أن تكون لهم دون غيرهم، فالإسلاموية - من وجهة نظرهم - هي الإسلام، ومن ثم فإن الإسلام
بالتالي هو الإسلاموية.
في هذا الإطار، تسعى الإسلاموية
حتى إلى القضاء على التعددية الفقهية المتوارثة في التاريخ الإسلامي، ومن الأمثلة
على ذلك ما طالب به سعيد رمضان في كتابه
Islamic Law, Its Scope and Equit الذي ينطلق من دعوى أن
المسلمين ليسوا في حاجة حقًا إلى التفرق في مدارس فقهية مختلفة.
في أوساط هذه الجماعات الإسلاموية،
القائمة على فكرة التمييز الديني لأعضائها عن المسلمين الآخرين، وعلى فكرة الشعور
بالتهديد من الداخل من قِبَل المسلمين "الزائفين" - كما يرونهم - يصبح
كل إسلاموي هو وحده المناضل من أجل الإسلام، وهو وحده الوصي والمسؤول والممثل الوحيد عن الإسلام الحقيقي. في
المقابل يصبح كل مسلم "غير إسلاموي" هدفًا لكل أشكال العنف الرمزي
والبدني والازدراء والتعصب والإقصاء. لذا يمكن أن نؤكد أن الصورة الذهنية لهذا
الآخر المسلم "غير الإسلاموي" هي نتاج عملية مزدوجة، تعتمد على بناء "الأنا"
لدى الإسلاموي من ناحية، وعلى استبعاد وإقصاء الآخر المسلم "غير الإسلاموي"
من الإسلام، من ناحية أخرى.
إن تحليل الخطاب الإسلاموي
حول الهوية والأنا والآخر يُظهر لنا العديد من الانحرافات التي يمكن أن نصفها
بأنها طائفية بامتياز:
1- تقديس المُؤَسِّس؛ لدرجة أن يرتقي إلى
مكان الرسول ومكانته، ولو بطريقة غير مباشرة.
2- لا إسلام خارج "الإسلاموية"
(وهو فكر الإسلام السياسي)؛ فالإسلاموية لا تكتفي بأن تقدم نفسها على أنها جزء مما
هو موجود في الإسلام من تيارات، بل إنها ترى نفسها التجسيد الوحيد للإسلام، أي
إنها هي التي تمثل الإسلام بشكل حصري، فمن خلال الإسلاموية - وحدها - يمر خلاص الإسلام
والإنسانية اليوم، إنه إسلام موازٍ في الواقع.
3- تقديس المعاناة، أو السعي الدائم إلى "الكربلائية".
4- العزلة الشعورية، بحيث إن الإخوان لا
يخرجون من مجتمعهم - فكريًا - إلَّا للدعوة، أو لتجنيد المسلم العادي لصالح الإسلاموية.
5- أمّا الحوار النقدي الجاد حول نمط تَدَيُّن
الإسلاموي فهو أمرٌ غير وارد.
6- الحرص على استخدام مفردات ومصطلحات خاصة
بهم، والعمل على نشرها، إمّا باختلاق كلمات جديدة، أو بتغيير معنى الكلمات الشائعة،
واللجوء إلى "لَيّ" أعناق الكلمات، واستخدامها في صالح أيديولوجيتهم،
ولخدمة أغراضهم وأهدافهم[8].
وفي هذا السياق تلجأ
الجماعة إلى أساليب نفسية، ترسخ لمفهومها نحو نفسها، ولمفهومها نحو الآخر "المسلم
غير الإسلاموي"، وتحيط الجماعة وأفرادها بسوار من التميز والعزلة عنه، وفي
ذلك يقول حسن البنا:
سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام
عقبةً في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام،
وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان،
وستقف في وجوهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن
تضع العراقيل في طريقكم[9]".
وهكذا يُعمق المرشد الأول
للجماعة تلك الفجوة التي تفصل بين جماعة الإخوان المسلمين وبين المسلمين غير الإسلامويين،
باتهامهم - كالعادة - في دينهم والتشكيك في نواياهم بمثل قوله:
"الذين خلعوا ثوب
العداء الظاهري، ولبسوا لأهل هذا الدين جلود الضأن، واستتروا بالتوبة والندم،
وغسلوا الذنوب الماضية بدموع التماسيح، واندسوا بين المسلمين، ينالون منهم وهم في
صفوفهم ما لم يكونوا يقدرون على نواله وهم يواجهونهم بالعداء[10]".
ويستمر الخطاب المؤسس
لجماعة الإخوان المسلمين في سعيه وترسيخه لمفهومه المقدس عن نفسه وعن نظرته
الدونية التشكيكية التكفيرية تجاه الآخر، كما تعكسه مقولة حسن البنا في الفقرة
التالية:
"وفي مصر هُرْمُزَانِيُّون
كُثر، وسيئون كُثر، جاهروا بحرب الإسلام أمدًا طويلًا، وسلكوا إلى ذلك كل الوسائل.
وكأنهم استشعروا الخيبة والفشل أمام البصيص من اليقظة الإسلامية، وطاش سهمهم، ولم
يفوزوا من الأمة بغير البراءة منهم. أيقنوا أن خطة المساواة عاقبتها الحرمان
والسقوط. وها نحن أولاء نرى الآن خطة التغيير، ورجالًا يعلنون توبتهم، ويبرؤون مما
اجترحوا، متزرين بالشباب تارة، والجهل تارة أخرى، ويحاولون خديعة الشبان المسلمين
بمثل هذا الخداع، لينضموا إلى صفوف القيادة، فيصلون تحت ستار التوبة إلى ما لم
يصلوا إليه بأساليب العداء والتشهير[11]".
وأحد أهم المنطلقات
الفكرية التي يتم الاستناد إليها في الخطاب الإخواني، من أجل التفريق بين الأنا وبين
الآخر المسلم غير الإسلاموي، هو وجوبية القطيعة مع الحضارة الغربية، ومن ثم
القطيعة مع كل مَنْ يعتقد في أي أفكار يَدَّعي الإخوان أنها غربية، مثل فكرة أن
فصل الدين عن الدولة هو خصوصية مسيحية، بينما المزج بينهما هو من خصوصية الإسلام[12]، وفي هذا الصدد يقول حسن
البنا:
"وزعماء الشعوب
الشرقية الآن يأخذون المدنية الأوروبية من أطرافها ونهايتها، ويفضلون الخطوات التي
سار فيها الغرب حتى وصل إلى النهاية، ومن هنا كانت الثورات والفتن والقلاقل.
وخيرٌ لزعماء الشرق أن يَدَعُوا
هذه الفكرة الخاطئة - فكرة التقليد الأوروبي - ويسيروا بأممهم في طريق شرقي مبتكر،
يصل بهم إلى العظمة والنهوض. ولتكن تلك الغاية مطمح أنظار الجميع، وأساس برامج
الإصلاح الشرقي، وليذكروا دائمًا أن الشرقَ شرقٌ والغربَ غربٌ، رَضُوا بذلك أم أَبَوْا[13]".
ثم يكمل في موضع آخر موجهًا
كلامه إلى الدكتور طه حسين:
"فأمّا أن هذا التفريق
والفصل بين الدين والسياسة وبين الدين والقومية وبين الدين والعلم أصلٌ من أصول
الحياة الحديثة في أوروبا، فأمرٌ لا نخالف الدكتور طه ولا غير الدكتور فيه، ولا
ندعي غيره، بل نستطيع أن نقول أيضًا إن أوروبا استفادت من هذا التفريق والفصل أجزل
الفوائد، ولعلمها ما كانت تستطيع النهوض بغير هذا[14]".
"ألستم مسلمين أيها
الناس؟ ألا ترضون الإسلام حكمًا؟ نحب أن تكونوا صُرحاء، فإن كنتم آمنتم بهذه
الأصول في حياة أوروبا على أنها حقائق لا تقبل النقض، فاعلموا أنها لا تتفق مع الإسلام،
وأنكم بذلك تصدمون بإسلامكم. فكونوا شجعانًا، وكونوا صُرحاء في إعلان الخروج على
تعاليم الإسلام حتى لا تخدعوا أنفسكم[15]".
ومن جانبه، يجيب الدكتور
طه حسين على تلك الاتهامات وتلك السردية الإخوانية قائلًا:
"أرجو أن نكون أحسن
ظنًا بالإسلام، وأحسن ظنًا بأنفسنا، وأن نكون أحسن ظنًا بالله من أن نظن أن الإسلام
معرض لأي خطر؛ لأن فردًا يرى هذا الرأي أو ذاك. وأتمنى أن يُقَيِّضَ الله للإسلام
من يدافع عنه كما أدافع أنا عنه، وأن ينشره ويحببه للناس كما أنشره أنا وكما أحبب
مبادئه للناس[16]".
وبدوره، يرد حسن البنا على
الدكتور طه حسين، مشككًا في مقولته التي
مفادها أن المسلم غير الإسلاموي حريص بالفعل على الإسلام والدعوة له، كما توضحه
الوثيقة التالية، التي ربما لم تُنشر من قبل في أي دراسة عن الإخوان المسلمين:
"فهل يضع الدكتور طه
بك يده في يدنا على هذا الأساس، ثم نعاهد الله جميعًا أن نكون أمناء عليه مخلصين
له مجاهدين في سبيله؟[17]".
"فلا عليك يا دكتور أن نختم المطاف بتوبة صادقة نصوح، ونتجرد للإسلام وخدمة الإسلام، ولنحبب تعاليمه بحق إلى الناس، فنفوز بخير الدنيا وسعادة الآخرة، ذلك ما نرجوه منك ولك، وقلوب الناس بيد الله يصرفها كيف يشاء، فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام[18]".
الوثيقة الأولى: كيف رأى البنا الدكتور طه حسين؟[19]
وفي هذا السياق يمكن لنا
أن نفهم العبارات التي تدعو إلى شن الحرب على الآخر المسلم، مثلما نجد في هذا المقال
الذي يدعو إلى الجهاد ضد المسلمين، كتبه عام 1940 أحد المنتمين إلى الإخوان
- ويُدْعَى محمد محمد بسيوني - موجهًا خطابه إلى المرشد الأول لجماعة الإخوان حسن
البنا:
"فَسِرْ إلى ساحة
النصر على هدى وبصيرة من ربك، ونحن من ورائك أطوع لك من بنانك، وألزم لك من ظلك،
نردد هذا النغم القدسي العذب، الذي يقع على رؤوس الطائفة الكافرة الفاجرة وقع
السيوف، ويملأ القلوب الصادقة المؤمنة المطمئنة قوة على قوة وأملًا فوق أمل .. إن
ينصركم الله فلا غالب لكم[20]".
الوثيقة الثانية: المسلمون غير الإسلامويين "طائفة كافرة فاجرة" في نظر الإخوان[21]
وفي هذا السياق أيضًا
يمكننا أن نفهم عسكرة الأيديولوجية الإخوانية ضد المسلمين من غير الإسلامويين، كما
تبينه العبارات التالية الواردة في الوثيقة الثالثة التالية:
"ولنقاتلنَّ عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك ... أيْ مرشدنا، لقد أصبحتُ محبًا إلى لقاء ربي ومشتاقًا لما أعده من النعيم المقيم الذي قضي به للمؤمنين الصادقين الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل مرضاته، فادع الله أن يرزقني الشهادة، ويمنحني مرافقة الصديقين والشهداء والصالحين في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين".
الوثيقة الثالثة: "عسكرة الأيديولوجية الإخوانية ضد المسلمين من غير الإسلامويين"[22]
وفي هذا السياق نستطيع أن
نفهم ما جاء في الوثيقة الرابعة التي تبين كيفية مبايعة المرشد، والتي تنتهي بأن يصافح
المُبَايِع المُبَايَع له، وهو يتلو الآية الكريمة: ﴿إِن ٱلذِينَ يُبَايِعُونَكَ
إِنمَا يُبَايِعُونَ ٱللهَ يَدُ ٱللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ﴾، الفتح، الآية 10.
الوثيقة الرابعة: "مبايعة المرشد مبايعة لله"[23]
ثانيًا: السردية المؤسسة لـ "الأنا"
الإخوانية
من أكثر الخطابات الصريحة والمكثفة، والتي يمكن لها
أن تعكس السردية الإخوانية حول الأنا والآخر، هو الفيديو الذي تم تسريبه لخيرت
الشاطر أثناء ما يُسمى بأحداث الربيع العربي. ويمكن الاطلاع عليه هنا:
تحميل الفيديو على موقع تريندز
وقد استخلصنا أبرز ما جاء فيه؛ لكي نرسم صورة
متماسكة للسردية الإخوانية حول نفسها وحول الآخر المسلم، ومن أهم النقاط التي جاءت
في هذا الفيديو:
· بعد سقوط الخلافة وجد
المسلمون أنفسهم للمرة الأولى خارج دائرة السلطة بعد أكثر من 1200 سنة.
· أسلوب الخلافة العثمانية
كان خطأ.
· عمر بن الخطاب له مقولة
مهمة: "لا دين بلا جماعة، ولا جماعة بلا إيمان، ولا إيمان بلا طاعة".
· فعندما
سقطت الخلافة، لو كان هناك حكم إسلامي في مصر أو في الجزائر أو في عدة بلدان أخرى،
لكان بإمكان هؤلاء مثلًا أن يعملوا معًا، ويقرروا أن هدفهم القادم هو تحقيق
الخلافة الإسلامية، لكن هذا أيضًا قد ضاع ولم يعد موجودًا. وبالتالي أصبحنا عرايا ...
فلقد أصبحت السلطة غير إسلامية والحكومة غير إسلامية.
· تعددت ردود أفعال التيارات
الإسلامية أمام مثل هذا الموقف.
1. الشيخ محمود
خطاب السبكي مؤسس الجمعية الشرعية في مصر، قال إن الحل يكمن في محاربة البدع
وإحياء السنن المتعلقة بالعبادات. وعلى الرجال لبس الجلباب وإطلاق اللحية، وعلى
النساء تغطية الرأس والصلاة بطريقة معينة.
2. محمد بن عبد
الوهاب
من جانبه، قال إن الحل يكمن في إحياء السنن، ولكن فيما يتعلق بالعقائد وليس
العبادات، وكأنه قال للسبكي إن مقاربتك خاطئة؛ فإن الأولوية ليست للجانب السلوكي
ولكن للجانب العقدي.
3. من جانبه قال الشيخ
محمد عبده في مصر إن الحل يكمن في إصلاح الخطاب الديني، وإن مشكلة مصر - على
سبيل المثال - أن دور الأزهر قد تقهقر؛ وبالتالي ليس هناك تربية ولا تعليم للأفراد،
وهذا سبب المشكلة. فدعنا نحل هذا الموضوع أولًا.
4. الحركة المهدية
في السودان، والسنوسية في ليبيا، وحركات أخرى كثيرة في بلاد عربية أخرى،
قالت إن الحل يكمن أولًا في تحرير الوطن؛ لأن كل تلك المصائب سببها الرئيسي هو
وجود المستعمر.
5. جمال الدين
الأفغاني قال إن الحل هو الخروج على الحاكم.
· ظهرت - إذنْ - تصورات
كثيرة لمحاولة الإصلاح. كل الأفكار قد قيلت، ولكن ظلت هناك إشكالية، وهي أن من
يقترح كل تلك الحلول يخاطب مَنْ في النهاية؟ مَنْ الذي سينفذ؟ ما هو الهيكل الذي
من خلاله سيتم تنفيذ هذا كله؟ فكل من اقترح حَلًا لم ينتبه إلى أن المسلمين
أصبحوا خارج السلطة؛ وبالتالي فإن تلك الحلول ليست مجدية، لأنهم يفكرون بمنطق
ما قبل الخروج من السلطة وفقدها. فمحمد عبده - على سبيل المثال - ينادي بإصلاح
النظام التعليمي، متصورًا أن الحكومة من الممكن أن تقوم بذلك.
· حسن البنا هو أول من انتبه
إلى أن الحال قد تغير، وأن المعادلة العُمَرِيَّة (لا دين بلا جماعة ... إلخ) قد اختلت.
وإذن؛ فلا يوجد سلطة مسؤولة عن تنفيذ ما نطرحه، ولا جماعة موجودة. لقد انتبه البنا
إلى ذلك، وأخذ يفكر في الحل، وقرر الرجوع إلى تاريخ المسلمين ليرى كيف تصرفوا
عندما فقدوا السلطة، فلم يجد في تاريخ المسلمين مثيلًا لما آلتْ إليه الأمور بعد
سقوط الخلافة. فحتى عندما أسقط التتار الخلافة في بغداد، كان الحكم في مصر إسلاميًا،
وفي فلسطين إسلاميًا، واستطاع المسلمون أن يتجمعوا بعد ذلك، وتجمعت حكومة هنا
وحكومة هناك من أجل لَمّ الشمل، وانتصروا على التتار بقيادة قطز، وقد سبق أن تكرر
هذا الأمر أيضًا ضد الصليبيين بقيادة صلاح الدين الأيوبي.
· فإذنْ لم يجد حسن البنا
سابقة في تاريخ المسلمين كله، إلَّا في عهد النبي، عندما نزل الوحي لأول مرة، لأن
سيدنا النبي أقام دولة من جديد. وهكذا عاد البنا إلى سيرة النبي، وحدد ما الغاية
والأهداف والمراحل التي سلكها النبي، وأعاد من خلال ذلك إنتاج فقه الدين وأنشأ وحدد
مناهج الجماعة.
ما سبق يوضح لنا بجلاء أن فكرة "الجاهليه"،
وتكفير المجتمع والحكومات "المسلمة غير الإسلاموية"، هي نفسها الفكرة
الرئيسية التي قامت عليها جماعة الإخوان المسلمين، وأنشأت سرديتها حول نفسها وحول "الآخر".
الخاتمة
لا يحتاج الأمر إلى كثير
من الجهد لكي نتبيّن - بالتحديد والدقة - وجهة النظر الإسلاموية عمومًا تجاه
"الآخر"، أو بعبارة أخرى: التوصيف الإسلاموي لهذا "الآخر".
وكل ما علينا فعله هو أن نقوم بتحليل النصوص المُؤَسِّسَة للإسلاموية - وفي القلب
منها النصوص "الإخوانية" - لكن نتبيّن أن هذا "الآخر الكبير"،
أو "The big Other"، بمفهوم المحلل النفسي
الفرنسي جاك لاكان[24]، هو بكل بساطة ذلك المسلم غير المنتمي لفكر الإسلام السياسي، وليس أصحاب
الديانات الأخرى، أو حتى غير المؤمنين بالديانات أصلًا[25]. فالإسلاموية بطبعها نافيةً ومُقْصِيَةً لبقية "الإسلامات[26]. وينبغي أن يُؤخذ في
الحُسبان أن الإسلاموية تنزلق إلى "تدنيس" الدينيّ حين تُنزله إلى مستوى
السياسي، ويترتب على ذلك بالطبع أن ترفع من شأن السياسي بتقديسه؛ فينتج عن ذلك تركيبة
أيديولوجية يختلط فيها الرأي والتفسير بالنص المقدس، فيتداخلان، ويُفْرِزَان نوعًا
من التَّدَيُّن، سوف ينفجر بالقطع إن عاجلًا أو آجلًا - بالكراهية والعنف - في وجه
كل من لن ينضوي تحت لوائه، وعلى رأسهم هؤلاء المسلمين من غير الإسلامويين[27].
خلاصة الأمر، أن الهوية الإسلاموية - قبل كل شيء - تقوم على التعارض مع الآخر، وهذا
"الآخر" واضحٌ ومُحَدَّدٌ، وهو المسلم غير الإسلاموي، ولا تقوم على
التعارض مع الآخر الديني كما يَدَّعي بعض الباحثين، لا سيّما في الأكاديمية
الغربية.
وكما يؤكد لنا Patrick Coli في مقاله «Identité et altérité»، فإن مفهوم الهوية لا يمكن فصله عن مفهوم الآخر الذي تستمد الهوية شرعيتها منه. ومن ثم فإننا نلاحظ أن أكثر أشكال "الآخر" تنظيرًا لكراهيته وشن الحرب عليه - في الأيديولوجية الإسلاموية - هو ذلك المسلم "غير الإسلاموي"، وليس أي "آخر" سواه؛ وذلك لأن وجود المسلم غير الإسلاموي هو في حد ذاته - وبكل وضوح - أقوى تشكيك في فكرة أن الإسلام هو الإسلاموية.[28]
[1] تلك الدراسة هي تطوير لما تم نشره مسبقًا للدكتور وائل صالح، بخصوص بعض الأفكار التي نُشرت على موقعيْ التواصل الاجتماعي: "مؤمنون بلا حدود"، و"أصوات أون لاين"، وقد تم تطويره من قِبَل كاتبيْ هذه الدراسة، وخصوصًا الدراسة التالية المأخوذ منها بعض الفقرات كما هي:وائل صالح، لماذا تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ الإسلاموية .. هل هي رد فعل على الغزو الثقافي الغربي؟، مؤمنون بلا حدود، https://l8.nu/r2Ot
[2] وائل صالح، لماذا تتعاطف دوائر عديدة في
الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ الإسلاموية .. هل هي رد فعل على الغزو الثقافي
الغربي؟، مؤمنون بلا حدود، https://l8.nu/r2Ot
[3] كما أن تلك
الدراسة يمكن أن تندرج تحت ما بات يُعرف بالإسلامويات التطبيقية، والتي تسعى إلى
"وضع مبادئ لمقاربة تؤسس لمرجعية معرفية عربية في دراسة ظاهرة الإسلام
السياسي، ولتحديد بعض المحاور الجديدة التي تُعين على البحث فيها. وهو عمل لا
ينتهي بكتابة هذه الدراسة، بل يبدأ، وهو عمل مبني على نوع من الحوار المعرفي
المفتوح بشكل دائم، لتجويد تلك المقاربة قدر الإمكان، وجعلها قادرة على مواكبة
تطورات الإسلاموية، وعدم التوقف عن سبر أغوارها، من خلال ما يكشف عنها، ومن خلال
ما تمدنا به مناهج البحث العلمي بكل جديد".
وائل صالح، الإسلامويات
التطبيقية: نحو مرجعية معرفية عربية لدراسة ظاهرة الإسلام السياسي، اتجاهات
الإسلام السياسي، تريندز للبحوث والاستشارات، 29 سبتمبر 2021. https://l8.nu/qzl2
[4] المرجع السابق.
[5] وائل صالح، لماذا تتعاطف دوائر عديدة في
الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ الإسلاموية .. هل هي رد فعل على الغزو الثقافي
الغربي؟، مؤمنون بلا حدود، https://l8.nu/r2Ot
[6] المرجع السابق.
[7]
Wael Saleh, Patrice Brodeur, The right of religious freedom in contemporary
Islamic thought, Chapter,
Routledge
Handbook of Freedom of Religion or Belief, Routledge, 2020.
[8] وائل صالح، لماذا تتعاطف دوائر عديدة في
الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ الإسلاموية .. هل هي رد فعل على الغزو الثقافي
الغربي؟، مؤمنون بلا حدود، https://l8.nu/r2Ot
[9] في مقال لحسن البنا بعنوان العقبات في
طريقنا، مجلة الإخوان المسلمين، العدد السابع، السنة الثانية 661، صفحة 37.
[10] توبة
الهرمزان، حسن البنا، مجلة الفتح، العدد 103، صفحة 15، 5 يوليو سنة 1928.
[11] المرجع السابق.
[12] وذلك على الرغم من أن هذا الصراع على تفسير
علاقة الديني بالسياسي ونمط الحكم داخل الإسلام كان صراعًا موجودًا حتى قبل ولادة
الحداثة الغربية، وانتقالها للمجتمعات الإسلامية. فالمسلمون - منذ البداية - كان
لديهم تفسيرات متعددة لما يُفترض أن تكون عليه تلك العلاقة بين الدين والدولة، وبين
الدين والسياسة عمومًا، بل قد وصل الأمر إلى أنهم - كغيرهم من الشعوب - خاضوا
حروبًا حول تفسيرات هذه العلاقة، وذلك كما يبين لنا الدكتور عبد الغني عماد في
كتابه «الإسلاميون بين الثورة والدولة».
انظر وائل صالح، لماذا
تتعاطف دوائر عديدة في الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ (5) هل فصل الدين عن الدولة هو خصوصية مسيحية؟ بينما المزج بينهما هو من
خصوصية الإسلام؟، أصوات أونلاين، 7يوليو 2020، http://bitly.ws/IToA
[13] حسن البنا، إن في ذلك لعبرة، الفتح، السنة
الثالثة، العدد 134، 7 فبراير 1929.
[14]المرجع السابق.
[15] حسن البنا، هذه الثلاثة من أركان الإسلام (الدولة والقومية
والعلم)، مجلة الإخوان المسلمين العدد 4، 9 مارس 1940.
مجلة التعارف، العدد (4)، السنة الخامسة، السبت 30 محرم 1359ﻫ - 9 مارس
1940، ص (1-2).
[16] حسن البنا، إذا كان هذا صحيحًا يا دكتور فقد اتفقنا، مجلة
الإخوان المسلمين، العدد 16، 8 يونية 1940.
[17] المرجع السابق.
[19] حسن البنا،
إذا كان هذا صحيحًا يا دكتور فقد اتفقنا، مجلة الإخوان المسلمين، العدد 16، 8
يونية 1940.
[20] محمد محمد بسيوني، إن ينصركم الله فلا غالب لكم.
مجلة الإخوان المسلمين العدد 16، 8 يونية 1940.
[21] محمد محمد بسيوني، إن ينصركم الله فلا
غالب لكم. مجلة الإخوان المسلمين، العدد 16، 8 يونية 1940.
[22] محمد الهادي عطيه، لبيك .. لبيك، من
جندي في كتيبة الإخوان المسلمين إلى القائد الأعلى والمرشد العام للإخوان
المسلمين، النذير، العدد الرابع، الإثنين 21 ربيع الثاني سنة 1357، السنة الأولى.
[23] مجلة الإخوان المسلمين، العدد 13، السبت
11 ربيع الآخر، سنة 1359، 18 مايو 1940، السنة الخامسة، عدد خاص عن الإخوان
المسلمين.
[24] وذلك بمعنى "الغيرية الراديكالية
التي لا تُختزل إلى أي تماهٍ خيالي أو ذاتي".
[25] انظر صلاح سالم في كتابه: الأساطير
المؤسسة للإسلام السياسي، المنشور في جزءين بدار نشر الهيئة المصرية العامة
للكتاب.
[26] وائل صالح، الإسلام الإنسانوي .. موت
الإسلاموية، العين الإخبارية، 2020/10/12،
[27] المصدر السابق.
[28] وائل صالح، لماذا تتعاطف دوائر عديدة في
الأكاديميا الغربية مع الإسلاموية؟ الإسلاموية .. هل هي رد فعل على الغزو الثقافي
الغربي؟، مؤمنون بلا حدود، https://l8.nu/r2Ot
©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.
Reviews (0)