Research

النفط الروسي في مواجهة سقوف الأسعار: الأسباب والتداعيات ومحددات المستقبل

  • موزة المرزوقي
    رئيس قسم الدراسات الاقتصادية
0 Views
International Political Economy

النفط الروسي في مواجهة سقوف الأسعار: الأسباب والتداعيات ومحددات المستقبل


مقدمة:

في الخامس من ديسمبر الجاري 2022، ستكون سوق النفط العالمية على موعد مع تدخل دولي يندر حدوثه سوى في أوقات الأزمات العالمية الكبرى. ففي ذلك التاريخ، سيكون على كافة المشترين في هذه السوق شراء النفط الروسي بسعر مسقوف بحاجز 60 دولارًا للبرميل للنفط الروسي. ويأتي ذلك التدخل ضمن سلسلة طويلة من العقوبات التي تفرضها الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على روسيا نتيجة لحربها على أوكرانيا.

على أن تدخلًا مسبقًا كالذي يحدث حاليًا لتحديد أسعار النفط و/أو وضع سقوف سعرية للخام الذي ينتجه أحد البائعين، يعني أن آلية التنافس الحر بين قوى العرض والطلب قد غابت عن هذه السوق، ناهيك عن كونه يعكس القوة التي يمتلكها المشترون في هذه السوق في مواجهة البائعين.

وعلى أية حال، تحاول هذه الورقة استعراض الأبعاد الكاملة لهذا الموضوع، منطلقة من تحديد المكانة الروسية في سوق النفط الدولية، ثم تحدد بعدها موضع النفط في هيكل العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي منذ حربه على أوكرانيا في فبراير من العام الحالي 2022. يلي ذلك تحليل الظاهرة التي تسميها الدراسة معضلة النفط الروسي وأثرها ليس فقط على سوق النفط العالمية، بل على مجريات الأداء الاقتصادي العالمي خلال العام القادم 2023. وبعد ذلك يتفرع التحليل إلى فهم أبعاد سياسة سقوف الأسعار كوسيلة للتغلب الغربي على معضلة النفط الروسي، مع النظر في فرص ومحددات واحتمالات نجاحها المستقبلية. ثم تختتم الورقة بناءها التحليلي بالنظر في التأثير الطويل الأجل لاتباع هذه السياسة على محددات القوة والتأثير في سوق النفط العالمية بعيدًا عن الأزمة الحالية للحرب الروسية الأوكرانية.

  1. الاقتصاد الروسي وسوق النفط الدولية:

يمتلك الاقتصاد الروسي مكانة رائدة في سوق النفط الدولية، سواء فيما يملكه من احتياطيات نفطية، أو في قدراته الإنتاجية، أو في تأثيره في سوق النفط الدولية، لدوره الفاعل في جانب العرض في السوق. وللإلقاء نظرة فاحصة على مكانة روسيا النفطية، تعرض النقاط الفرعية التالية تطور الاحتياطيات الروسية من النفط، ثم تحدد قدراته الإنتاجية والعوائد التي يجنيها من أنشطته التصديرية، مع إلقاء الضوء على مكانته في الترتيبات التنظيمية في سوق النفط العالمية.

2-1 تطور الاحتياطيات الروسية من النفط:

من المعلوم أن حجم الاحتياطيات النفطية يوضح جانبًا أصيلًا من المكانة التي يتمتع بها الاقتصاد في سوق النفط العالمية. وفيما يخص الاقتصاد الروسي، فإن بيانات سوق الطاقة الدولية توضح أن حصة روسيا من الاحتياطيات المؤكدة عالميا تبلغ نحو 6.2%. وستظهر ضخامة هذه الحصة إذا ما قورنت بحصص الدول صاحبة الاحتياطيات الأضخم عالميًا. إذ توضح الخريطة التالية في الشكل رقم (1) أن الاقتصاد الروسي يقع في المنزلة السادسة عالميًا من حيث حجم الاحتياطيات الدولية؛ ذلك أنه يأتي تاليًا في الاحتياطيات المؤكدة لكل من فنزويلا والمملكة العربية السعودية وكندا ثم إيران والعراق.

شكل رقم (1): خريطة عالمية لأهم الدول صاحبة الاحتياطيات النفطية في العام 2020*

* المصدر: تقرير شركة البترول البريطانية BP: https://2u.pw/ZqOpu.

كما يوضح الشكل التالي رقم (2) التطورات العامة والرئيسية في حجم الاحتياطيات المؤكدة للنفط الروسي في العقدين الأولين من القرن الحالي في الفترة 2000-2020.

شكل رقم (2): تطور الاحتياطيات النفطية المؤكدة لروسيا بين عامي 2000-2020*

* المصدر: تقرير شركة البترول البريطانية BP، https://2u.pw/ZqOpu.

ونظرًا لاعتماد الاقتصاد الروسي المتنامي على النفط، سواء للاستهلاك المحلي أو للتصدير، فلقد تآكلت الاحتياطيات المؤكدة الروسية من النفط خلال العشرين عامًا المنقضية بوتيرة ملحوظة. فبينما دخلت روسيا القرن الحادي والعشرين وهي تمتلك نحو 112 مليار برميل من النفط الخام، إذ تراجعت هذه الاحتياطيات لأدنى مستوياتها في العام 2010 ووصلت لنحو 105.8 مليار برميل فقط. ورغم أن هذه الاحتياطيات قد زادت مرة أخرى في العام 2020 مقارنة بالعام 2010 ووصلت لنحو 107.8 مليار برميل، لكنها مازالت تقل بنحو 4% إذا ما قورنت بالعام 2000.

2-2 النفط الروسي من الإنتاج إلى التصدير:

إن نظرة فاحصة لتطور الإنتاج الروسي من النفط خلال العام 2000-2021 يوضح إلى أي مدى يشكل هذا النشاط التعديني والاستخراجي أهمية بالغة للاقتصاد الروسي. فلقد بلغ حجم الإنتاج اليومي في العام 2000 نحو 6.6 مليون برميل يوميًا، ثم تطورت القدرات الإنتاجية الروسية حتى وصلت لأعلى قيمة لها في العام 2019 عندما بلغت نحو 11.7 مليون برميل، لكنها عادت لمستوى 10.9 مليون برميل في العام 2021. ويوضح الشكل التالي رقم (3) هذه الحقائق عن الإنتاج النفطي الروسي.

شكل رقم (3): تطور حجم الإنتاج اليومي من النفط الروسي خلال الفترة 2000-2021*

* المصدر: تقرير شركة البترول البريطانية BP، https://2u.pw/ZqOpu.

وبينما يشكل النفط للاقتصاد الروسي مكانة بالغة الأهمية، سواء في توليد الناتج المحلي الإجمالي أو في توليد النقد الأجنبي كما سيبين في موضع تالٍ، فإن ريع النفط الذي يتحصل عليه الاقتصاد الروسي، والمتمثل في الفرق بين تكاليف الإنتاج النفطي وبين الأسعار الإقليمية للنفط، بات يشكل حاليًا نحو عشر الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصاد الروسي. ووفق مؤشرات التنمية العالمية للبنك الدولي، فقد بدأ الريع النفطي يشكل مكانة أساسية منذ نحو ربع قرن من الزمان، وتحديدًا منذ العام 1999. وكان متوسط الريع النفطي خلال الفترة الممتدة بين عامي 1999 و2020 نحو 9.6% من الناتج المحلي الإجمالي الروسي.

ولما كان الإنتاج الروسي من النفط لا يتم استهلاكه محليًا بالأساس، فبطبيعة الحال ينعكس هذا على زيادة قدرة الاقتصاد الروسي على تصدير الطاقة الإنتاجية الفائضة. ويؤكد هذه الحقيقة ما شهدته الصادرات الروسية من النفط في العقدين المنصرمين من تطورات على النحو الذي يرويه الشكل التالي رقم (4):

شكل رقم (4): تطور حجم الصادرات الروسية اليومية من النفط خلال الفترة 2000-2021*

* المصدر: تقرير شركة البترول البريطانية BP، https://2u.pw/ZqOpu

فلقد تزايدت القدرات الروسية على تصدير النفط للأسواق الدولية من نحو 4.2 مليون برميل يوميًا لتصل في العام 2021 - أي العام السابق لعام العقوبات الدولية على الاقتصاد الروسي - لنحو 8.2 مليون برميل يوميًا. وكان العام 2017 هو العام الأعلى تصديريًا للنفط الروسي عندما لامست الصادرات الروسية حاجز 9 ملايين برميل يوميًا[1].

وعلى صعيد الإيرادات الروسية من صادرات النفط، يوضح الجدول التالي أهم العوائد الروسية من تصدير النفط خلال الفترة 2017-2021:

جدول رقم (1): عوائد الصادرات الروسية من النفط الخام والمشتقات النفطية (بالمليار دولار)*

* المصدر: موقع خريطة التجارة العالمية، https://www.trademap.org/Index.aspx

وتشير بيانات الجدول السابق رقم (1) أن المتحصلات التي جناها الاقتصاد الروسي من الصادرات النفطية الخام ومشتقاتها زادت من نحو 151.8 مليار دولار في العام 2017 لتصل لنحو 180.8 مليار في العام 2021. وكان العام 2019 هو العام الأعلى في الحصيلة النفطية الروسية بقيمة تناهز 188.3 مليار دولار.

وإجمالًا، تشير البيانات النفطية الكمية أن الاقتصاد الروسي يتمتع بمكانة عالمية رائدة سواء في الاحتياطيات أو في الإنتاج أو التصدير. لكن ماذا عن المكانة النوعية للاقتصاد الروسي في سوق النفط العالمية؟ وبمنطق آخر، هل انعكست القدرات النفطية الروسية في ارتقاء مكانته في التنظيمات الدولية لسوق النفط؟ تحاول النقطة الفرعية التالية الإجابة عن هذا التساؤل.

2-3 الاقتصاد الروسي وتجمُّع أوبك بلس:

منذ أن بدأت سوق النفط تأخذ الطابع التنظيمي العالمي وتظهر الأطر القانونية المنظمة للبائعين، وتحديدًا منذ ظهور منظمة الدول المصدرة للنفط أوبك في العام 1960، شهدت هذه السوق محاولات جادة على صعيدي العرض والطلب في التأثير على سوق النفط العالمية لصالح المنتجين تارة ولصالح المستهلكين تارة أخرى. لكن هذه السوق شهدت عدة محطات رئيسية في تاريخ تطورها العالمي[2]. وكانت أحدث هذه المحطات عندما اتسعت مظلة الدول المصدرة للنفط أوبك لتدخل ضمن ترتيباتها كبريات الدول المنتجة للنفط من خارج جماعة أوبك. وكانت روسيا هي أبرز الأطراف المنضوية تحت لواء كبار منتجي النفط عالميًا؛ ليدخل بذلك اتفاق "أوبك بلس" حيز التنفيذ في العام 2016 وليتمتع بدور حاكم في سوق النفط العالمية[3].

ومنذ أن ظهر اتفاق أوبك بلس في سوق النفط العالمية وهو يمارس أدوارًا فاعلة في سوق النفط العالمية بهدف التأثير على حجم الإنتاج ليضمن تحقق التوازن المستدام في السوق وبالدرجة التي تحمي مصالح المنتجين وتمنع نزول سعر النفط لمستويات تقلل القيمة المضافة المولدة في الدول النفطية الرئيسية. وكانت أبرز قرارات تجمع أوبك بلس ما اتُّخذ بالإجماع في أكتوبر من العام 2022 من تخفيض الإنتاج النفطي لضبط الأسعار النفطية في ظل اقتصاد عالمي يعاني من تباطؤ النمو وتتزايد فيه مؤشرات الركود المستقبلي[4].

ومهما يكن من أمر، فإن الدور الروسي في رسم سياسات الإنتاج النفطي العالمي لا يرتبط فحسب بقدراته الإنتاجية السنوية، بل يعتمد بصفة أساسية على مرونة الإنتاج النفطي. ويمكن الوقوف على درجة مرونة الاقتصاد الروسي في سوق النفط العالمية من خلال عدة مؤشرات. ومن أهم هذه المؤشرات حجم الاستهلاك المحلي والتطور الحاصل فيه. وقد بلغ الاستهلاك المحلي الروسي من النفط في العام 2021 نحو 3.4 مليون برميل يوميًا. وقد زاد هذا المعدل بنحو 6.1% مقارنة بالعام 2020[5]. ويعني ذلك أن تنامي الطلب المحلي على النفط يقلل تدريجيًا من مرونة الاقتصاد الروسي في التوسع التصديري، وخصوصًا في ظل استقرار معدل الإنتاج الروسي من النفط عند مستوى متوسطه 8 ملايين برميل يوميًا وفق بيانات الشكل السابق رقم (4).

وإجمالًا، فإن كافة المؤشرات السابقة توضح بما لا يدع مجالًا للاختلاف أن للاقتصاد الروسي مكانة دولية مؤثرة في سوق النفط العالمية، إما عبر تأثيره على المعروض النفطي العالمي أو عبر التأثير في التنظيمات الدولية لمنتجي النفط عبر تجمع أوبك بلس.

والسؤال المطروح الآن هو: كيف أثرت - ومازالت - الحرب الروسية على أوكرانيا على سوق النفط العالمية بفعل تنامي وتنوع العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي؟

  1. الحرب الروسية-الأوكرانية وتنامي العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي:

عندما خاضت روسيا حربها على أوكرانيا في فبراير من العام الحالي 2022، اتخذت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية حزمة من العقوبات الاقتصادية لكي تكبح قدرات الاقتصاد الروسي للاستمرار في الحرب. وقد تراوحت هذه العقوبات بين التأثير على التجارة الخارجية الروسية (بتقييد قدراتها التصديرية والاستيرادية وتحجيم وصولها لسلاسل الإمداد العالمية في السلع والخدمات) وبين تقييد تدفقات رؤوس الأموال من وإلى الاقتصاد الروسي. والنقاط التالية توضح أهم العقوبات على الاقتصاد الروسي مع التركيز على عقوبات التجارة النفطية الروسية:

3-1 العقوبات المؤثرة في سلاسل الإمداد الروسية:

نظرًا لأهمية قطاع التجارة الخارجية بالنسبة للاقتصاد الروسي، فإن العقوبات الغربية استهدفت التأثير السلبي على مشاركته في سلاسل الإمداد والقيمة العالمية، تصديرًا واستيرادًا، وقد تمثلت أهم هذه العقوبات فيما يلي[6]:

  • حظر تصدير السلع ذات الاستخدام المزدوج[7] من قبل المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبما يضعف من القدرات الصناعية المدنية والعسكرية الروسية.
  • ممارسة الضغوط على أنشطة النقل واللوجستيات الروسية في خطوط التجارة الدولية البرية والبحرية والجوية، مع حظر على جميع الرحلات الجوية الروسية من المجال الجوي للولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكندا.
  • حظر استيراد الذهب الروسي في أسواق الدول الغربية المستوردة له، مع حظر تصدير السلع الكمالية إلى روسيا.
  • كما فرضت المملكة المتحدة ضريبة بنسبة 35٪ على بعض الوارداتالروسية.

3-2 العقوبات والتدابير المالية ضد الاقتصاد الروسي:

مارست الدول الغربية ضغوطًا إضافية على الاقتصاد الروسي من قناة تحركات رؤوس الأموال. وكانت هذه العقوبات تستهدف بالأساس تقييد نفاذ الاقتصاد الروسي لأسواق المال الدولية. وتمثلت أبرز هذه العقوبات في:

  • منعت الدول الغربية الاقتصاد الروسي من النفاذ للتمويل الدولي وحدَّت قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بل إن عددًا كبيرًا من الشركات الدولية النشاط قد أعرض عن الاقتصاد الروسي أو تخارج بالفعل من بيئة الأعمال الروسية.
  • منعت الولايات المتحدة روسيا من استخدام أرصدتها المالية لدى البنوك الأمريكية في تسوية مديونياتها الخارجية.
  • تم إزالة البنوك الروسية الكبرى من نظام Swift للرسائل المالية الدولية، وبما يعني تقييد كامل للصفقات المالية الروسية عبر النظام البنكي الدولي. وفي ذات الوقت، استبعدت المملكة المتحدة البنوك الروسية الرئيسية من النظام المالي البريطاني، وجمدت أصول جميع البنوك الروسية، ومنعت الشركات الروسية من اقتراض الأموال، ووضعت قيودًا على الودائع التي يمكن للروس إيداعها في البنوك البريطانية.[8]

3-3 العقوبات على قطاع النفط الروسي:

أما فيما يتعلق بالعقوبات الغربية على قطاع النفط الروسي، والتي ستشكل معضلة النفط الروسي على ما سيأتي بيانه لاحقًا، فقد تمثلت في اتخاذ عدد من التدابير للتأثير في مكانة الاقتصاد الروسي في سوق النفط العالمية من خلال[9]:

  • يحظر الاتحاد الأوروبي استيراد النفط الروسي عن طريق البحر اعتبارًا من ديسمبر 2022.
  • سيحظر الاتحاد الأوروبي جميع واردات المنتجات النفطية المكررة من روسيا في فبراير 2023.
  • تحظر الولايات المتحدة جميع واردات النفط والغاز الروسية.
  • ستقوم المملكة المتحدة بالتخلص التدريجي من النفط الروسي بحلول نهاية عام 2022. كما أنها حاليًا لم تعد تستورد الغاز الروسي.
  • جمدت ألمانياخططها لافتتاح خط أنابيب الغاز من روسيا.

3-4 محددات وفرص صمود الاقتصاد الروسي في مواجهة العقوبات:

رغم تنوع وشمول العقوبات السابقة لكافة الأنشطة الاقتصادية الروسية، فإن قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في مواجهة هذه العقوبات يمكن ردها لعدة أسباب، منها:

  • تنامي حصيلة الصادرات النفطية الروسية في ظل ارتفاع أسعار النفط حاليًا. فبينما يشكل النفط نحو 40% من جملة الصادرات الروسية، فإن الارتفاع الحاصل في سعر النفط ينعكس على الحصيلة الروسية من صادراتها النفطية. وهو ما يخلق معضلة النفط الروسي على النحو الذي سيأتي بيانه في موضع تالٍ من هذه الورقة.
  • وفق بيانات البنك الدولي عن العام 2021، تمتلك روسيا حاليًا نحو 600 مليار دولار احتياطات دولية لدى البنك المركزي الروسي بما فيها من أرصدة ذهبية. ونظرًا لأن هذه الاحتياطيات تمثل نحو 18.7 شهر من واردات روسيا من العالم، فإنها قادرة على تقليل أثر صدمات التجارة الخارجية الروسية بفعل العقوبات الدولية الراهنة.
  • نفاذ الاقتصاد الروسي في التجارة مع الشركاء الآسيويين وعلى رأسهم الاقتصادان الصيني والهندي، إذ تمثل هاتان الوِجهتان التجاريتان البديل الأكثر ملاءمة للاقتصاد الروسي في ظل اتساع رقعة العقوبات وسد الأبواب الغربية للتجارة أمامه.

لكن الصمود الاقتصادي لروسيا بات مهددًا في حال امتداد أجل العقوبات واستمرارها لفترات زمنية تتجاوز العام. إذ تشير بعض البيانات الدولية[10] أن معدل التضخم في الأسواق الروسية قد وصل لنحو 17.1% في مايو 2022 على أساس سنوي. كما تشير التوقعات الدولية أيضًا إلى تراجع تجارة التجزئة المحلية بمعدل يتراوح بين 8-9% خلال عام الأزمة 2022. وفي دلالة إضافية على تراجع قدرات الإنتاج الروسي، فإن بيانات مبيعات السيارات قد تدهورت في شهر مايو 2022 بنحو 83.5%. ومع تضافر هذه المؤشرات، تشير التوقعات الدولية إلى تراجع النمو الاقتصادي الروسي خلال العام 2022 بمعدل انكماش 7.8% سنويًا، في مقابل توقعات أكثر تشاؤمًا تشير إلى تدهور الناتج الروسي بمعدل كارثي يصل لنحو 30% خلال نفس العام.

وعمومًا، فإن قدرة الاقتصاد الروسي على الصمود في مواجهة العقوبات الغربية كانت - ولاتزال - سببًا رئيسيًا في لجوء الدول الغربية بقيادة G7 إلى تطوير أنواع مختلفة من العقوبات لتحقيق الهدف الأساسي لفرضها، والمتمثل في رفع فاتورة الحرب الروسية على أوكرانيا، وللدرجة التي تدفع الاقتصاد الروسي إلى التراجع، سلمًا أو حربًا.

  1. أسواق الطاقة ومعضلة النفط الروسي:

عندما قررت الحكومة الروسية غزو أوكرانيا في فبراير من العام الحالي 2022، كان الاقتصاد العالمي يكافح ليتعافى من تبعات وتداعيات جائحة كورونا العالمية؛ تلك الجائحة التي تركت آثارًا سلبية على سلاسل الإمداد العالمية، وساهمت في تحفيز قوى التضخم في الأسواق العالمية، سواء التضخم المتولد من دفع النفقة أو المتأتي من سحب الطلب، أو التضخم الراجع لتدهور معدلات الإنتاج بفعل الإغلاق العام أو تأثر قوى الإنتاج. ولقد سكبت الحرب الروسية مزيدًا من الزيت على نار التضخم المستشري في جسد الاقتصاد العالمي؛ وكان ذلك راجعًا لدورها في التأثير البليغ على سوق النفط العالمية.

والنقاط التالية توضح التطور في أسعار النفط العالمية إبّان وبعد نشوب الحرب الروسية على أوكرانيا خلال العام 2022، يلي ذلك عرض التطورات في معدل التضخم في أسواق مختارة (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان والصين والهند). وبمقارنة هذين المتغيرين، ستشير نقطة لاحقة إلى مصطلح معضلة النفط الروسي، التي باتت تعانيها سوق الطاقة العالمية حاليًا.

4-1 تطور أسعار النفط في عام الأزمة:

عند الاطلاع على أحوال سوق النفط خلال عام الأزمة 2022، سنجد أن بيانات منظمة أوبك تشير إلى حدوث تقلبات شديدة في أسعار النفط خلال ذلك العام. ويوضح الشكل التالي رقم (5) اتجاهات سعر النفط لسلة أوبك خلال الشهور الـ 11 الأولى من العام الحالي 2022.

شكل رقم (5): تطور سعر سلة أوبك النفطية خلال العام 2022*

* المصدر: موقع منظمة أوبك، https://www.opec.org/opec_web/en/data_graphs/40.htm

ونستطيع أن نرصد منذ مطلع العام 2022 اتجاهًا تصاعديًا لأسعار النفط من أدنى مستوى وصلت له بفعل الإغلاق العالمي الذي حدث في العام 2020. ورغم ابتداء العام الحالي 2022 من اتجاه صاعد لسعر النفط لسلة أوبك عند 75 دولارًا للبرميل، فإن التسارع في نفس الاتجاه قد حدث مع إعلان روسيا حربها على أوكرانيا في أواخر فبراير من نفس العام. ولقد دفعت هذه الحرب أسعار النفط للاقتراب من حاجز 120 دولارًا للبرميل في الفترة من مارس إلى يونيو من العام الحالي. بيد أن التدخلات العمدية في سوق النفط، بوعود كبريات الدول المنتجة للنفط ضمن تجمع أوبك لزيادة انتاجها النفطي تارة[11]، وتارة أخرى باتخاذ قرار بتقييد الإنتاج النفطي بمعدلات قياسية[12] مع الاجتماع التاريخي لتجمع أوبك بلس في أكتوبر من العام الراهن 2022، أفضت كلها إلى حدوث تقلبات سعرية في الاتجاه الهابط. وكان لإصرار الاقتصاد الصيني على تطبيق سياسة "صفر كوفيد" أثر إضافي على استمرار الاتجاه الهابط لأسعار النفط خلال الشهور الأخيرة من العام الحالي 2022.

وعمومًا، فقد تفاعلت كافة العناصر على جانبي العرض والطلب في سوق النفط العالمية لتصل بسعر النفط في مطلع ديسمبر الحالي لما دون خط 85 دولارًا للبرميل لسلة أوبك. وإزاء هذا التقلب في سوق النفط، فقد استمرت قوى التضخم النقدي في الاشتعال في كافة أسواق العالم. وكان ذلك إما استجابة لأسعار النفط المرتفعة - ناهيك طبعًا عن أسعار الغاز الطبيعي - ولعوامل اقتصادية وجيواستراتيجية إضافية حدثت في الأسواق العالمية وفي سلاسل الإمداد وخطوط التجارة العالمية.

4-2 تطور معدلات التضخم في الأسواق الغربية في عام الأزمة:

إن استقراء الشكل التالي رقم (6) يوضح إلى أي مدى تسببت التقلبات الحاصلة في سوق النفط العالمية من تأثير على معدلات التضخم، سواء في الاقتصاد الأمريكي أو اقتصاد أوروبا واليابان والصين والهند، تلك الاقتصادات التي تعتبر أكبر المشترين في سوق النفط العالمية.

شكل رقم (6): تطور معدلات التضخم في اقتصادات عالمية رئيسية خلال العام 2022*

* المصدر: https://ar.tradingeconomics.com/country-list/inflation-rate.

وبينما يعاني الاقتصاد العالمي، مستبقًا، من جراء تنامي الضغوط التضخمية مع الإسراع في الخروج من دائرة الإغلاق التي تسببت فيها جائحة كورونا العالمية، فإن ارتفاع أسعار النفط العالمية أضافت لقوى التضخم رافدًا مهمًا؛ ذلك أن التضخم الذي يحدث حاليًا في فترة الأزمة الروسية الأوكرانية يفسر من جانبين؛ الأول هو بفعل غياب الاستقرار عن سوق الطاقة العالمية وخصوصًا تقلب أسعار النفط وغياب الرؤية المستقبلية المستقرة. وثانيها بفعل التقطع في سلاسل الإمداد الزراعي والغذائي العالمية، مع تقطع إضافي في سلاسل التكنولوجيا بفعل التنافس المحتدم بين قطبي الصناعة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والصين.

وليس أدل على تأثير أسعار النفط على التضخم العالمي من مقارنة مضمون الشكلين السابقين رقمي (5) و(6). فمنذ مارس 2022 - وهو الشهر التالي لنشوب الحرب الروسية على أوكرانيا - والتسارع في معدل التضخم هو السمة الأساسية التي شهدته أسواق السلع والخدمات في الاقتصادات الرئيسية في العالم. والنتيجة المنطقية هنا أن العلاقة مازالت طردية بين ارتفاع المستويات العامة للأسعار في الدول المستوردة الرئيسية وبين أسعار النفط في السوق العالمية.

4-3 نشوء وتفاقم معضلة النفط الروسي:

إذا كان الاقتصاد العالمي يمر هذه الأيام بمرحلة عاصفة من منظور التضخم والاستقرار النقدي، فإن التحليل السابق قد أكد على أن تقلب أسعار النفط في سوق الطاقة العالمية قد تسبب في زيادة هذه العواصف الاقتصادية وأبعد الاقتصاد العالمي عن منطقة التوازن والاستقرار. ولكن ماذا عما تسميه الدراسة معضلة النفط الروسي؟

رأينا سابقًا أن الاقتصاد الروسي يعتبر لاعبًا شديد الأهمية والتأثير في جانب العرض بسوق الطاقة العالمية، أي إنه يملك من الأدوات والوسائل ما يمكنه من التأثير في جانب العرض الذي ينعكس مباشرة على أسعار النفط. ثم رأينا بعد ذلك رغبة وتصميم الاقتصاد الغربي بقيادة جماعة G7 على تقييد قدرات الاقتصاد الروسي ونفاذه للأسواق الدولية، تجارة واستثمارًا. وهنا تحديدًا تنشأ المعضلة؛ إذ كيف يمكن تقييد نفاذ الاقتصاد الروسي للأسواق العالمية من دون التأثير على مقتضيات الاستقرار في سوق النفط العالمية؟

فعندما تقرر دولة ما، أو حتى مجموعة من الدول، الامتناع عن استيراد السلع والخدمات من الاقتصاد الروسي، بما فيها النفط الروسي الذي يشكل نحو 40% من الصادرات الروسية كما سبقت الإشارة، فإن ذلك يعني مزيدًا من تراجع العرض الفعال في سوق النفط العالمية، أي مزيدًا من ارتفاع الأسعار في هذه السوق الشديدة التقلب حاليًا. ومع ارتفاع أسعار النفط، ستكون النتيجة التضخمية شديدة الوضوح في الأسواق المستوردة للنفط.

وبينما نجح الاقتصاد العالمي - وإن مؤقتًا - في التغلب على عقبة تجارة الغذاء والأسمدة القادمة من روسيا وأوكرانيا عبر البحر الأسود بتوقيع اتفاق الحبوب، فإن النجاح في سوق النفط ليس بهذا القدر من السهولة. فالتجارة النفطية تختلف اختلافًا جوهريًا عن أي نوع آخر من التجارة بين دول العالم. فالنفط إما ينقل بحرًا عبر ناقلات نفطية عملاقة، أو ينقل عبر الأنابيب بين الدول المتجاورة، أو حتى ينقل بشكل أكثر سهولة وأقل تكلفة عند تكرير هذا النفط لمشتقاته الرئيسية. ولذلك، فإن قرارًا بتقييد تجارة النفط الروسي (والذي ينتج نحو 8 ملايين برميل يوميًا من حصة عالمية تبلغ نحو 100 مليون برميل يوميًا) يعني أن تعمل الدول التي عاقبت الاقتصاد الروسي على كافة الصُّعد، برًا وبحرًا، وبتكاليف سياسية حرجة، لضمان الوصول لهذا الهدف؛ لكن الوصول لهذا الهدف يعني الإضرار المباشر بمصلحة من يسعى لتحقيقه من الدول التي تعاقب الاقتصاد الروسي حاليًا، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. وتلك بوضوح هي معضلة النفط الروسي.

وخلاصة القول أن التقييد الفعال والكامل للصادرات الروسية يعني بالنسبة إلى سوق النفط العالمية وبالنسبة للدول الغربية ارتفاعًا غير مرغوب فيه في الوقت الحالي في أسعار النفط، ويعني أيضًا مزيدًا من التضخم الذي ما انفكت السياسات النقدية المحلية في أمريكا وأوروبا تجاهد للنزول به لمستويات ما قبل الحرب الروسية على أوكرانيا.

  1. سقوف الأسعار ومحاولات التغلب على معضلة السوق:

إذا غضضنا الطرف حاليًا عن موقف الاقتصادين الصيني والهندي من التجارة النفطية مع روسيا، فإن التغلب على معضلة النفط الروسي باتت هدفًا رئيسيًا لصانع السياسة الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها الاقتصادان الأوروبي والياباني. وكانت الفكرة الأساسية للتغلب على معضلة النفط الروسي أن يتم الجمع بين الحسنيين: اتاحة المجال وفتح قنوات التجارة أمام صادرات روسيا من النفط، وتقييد قدرات الاقتصاد الروسي لزجره عن الاستمرار في الحرب على أوكرانيا.

وكان أن طورت الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة فكرة مبتكرة تتمثل في وضع سقف على أسعار النفط الروسي بحدود 60 دولارًا للبرميل. ونظريًا، فإن هذه السقوف السعرية تمارس الآثار التالية:

  • تضمن أسعار السقوف الموضوعة أن تغطي تكاليف الإنتاج النفطي بهامش الأرباح العادية، وبما يعني استمرار صمود قطاع النفط الروسي ودوران عجلات الإنتاج النفطي.
  • تضمن فتح الأسواق الدولية أمام النفط الروسي بتدابير وإجراءات تحافظ على هذه السقوف السعرية، وبما يعني تجنب انخفاض العرض النفطي من الأسواق العالمية، وبما يحافظ على التوازن الحاصل حاليًا في هذه السوق.
  • تحفز الشركاء التجاريين الأساسيين من خارج الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا على التعامل الشفاف في التجارة مع روسيا بعيدًا عن الأسواق النفطية الموازية، وبما يحقق مصالح شركات الشحن والنقل والتأمين التي تمتلكها الاقتصادات المعاقبة للاقتصاد الروسي.

وبالنظر للواقع العملي، فقد قرر الاتحاد الأوروبي في مطلع ديسمبر الجاري حظر استيراد النفط الخام المنقول بحرًا من روسيا، مع وجود بعض الاستثناءات الأوروبية لذلك الحظر، سيتم تناولها في موضع تال. ومن المقرر أن تسير في نفس الخطوات باقي الدول الصناعية السبع الكبرى لتحديد سقوف أسعار النفط الروسي عند مستوى 60 دولارًا للبرميل أو أقل. وفي حال تداول النفط الخام بسعر 60 دولارًا أو أقل، فإن الدول المشاركة في سقف السعر، والتي تتضمن مجموعة الدول السبع والاتحاد الأوروبي وأستراليا، ستتيح الحصول على الخدمات الأساسية، بما فيها التأمين[13].

  1. فرص ومحددات نجاح سياسة سقوف الأسعار:

إن التساؤل الذي يطرح نفسه في سياق البحث عن فاعلية سياسة سقوف الأسعار في التغلب على معضلة النفط الروسي هو: ما هي ضمانات نجاح مثل هذه السياسة في الواقع العملي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، تعرض النقاط التالية لآلية وضوابط تطبيق هذه السياسة والاستثناءات المقررة منها وآلية المراجعة الدورية لفاعليتها ثم تختتم بمحددات نجاحها في ظل المقاومة المتوقعة من الاقتصاد الروسي[14]:

  • إن آلية مراقبة وتطبيق هذه السياسة تتمثل في حساب السعر المتداول كحد أقصى عند تحميل النفط الخام في ميناء الشحن الروسي بدون تكلفة النقل والرسوم القانونية. وستتم المراقبة منذ استلام الشحنة على السفينة وحتى نقلها لسوق بلد جديد.
  • ومن بين ضوابط سياسة سقوف الأسعار، وفي حال تكرير النفط في الاقتصاد الروسي، فإنه لن يخضع للحد الأقصى السعري، لكن في حال تم مزجه مع نوع آخر من الخام، فإنه سيكون خاضعًا لسقف السعر. لكن، وكما أسلفت الدراسة في موضع سابق، فإن قدرات التكرير في الاقتصاد الروسي مسقوفة بحدود قصوى وصلت في أحسن الأحوال لنحو 6.8 مليون برميل يوميًا.
  • ولضمان الالتزام الدولي من شركاء التجارة مع النفط الروسي، فإن التمتع بخدمات الشحن والتأمين والنقل المقدم من الشركات الأوروبية في المرحلة الحالية سيكون مقصورًا فقط على الملتزمين ببنود الاتفاقية. ونظرًا لامتلاك دول الاتحاد الأوروبي أساطيل ضخمة لنقل النفط، ونظرًا لوقوع المجموعة الدولية لنوادي تأمين الحماية والتعويض (IG) في لندن، فلن يُسمح بتقديم خدمات النقل أو خدمات إعادة التأمين ضد مشكلات تسرب النفط في النقل البحري إلا في حال تم شحن النفط الخام تحت سقف السعر المقرر من الاتحاد الأوروبي.
  • وعلى صعيد الاستثناءات، فإن النفط المنقول عبر الأنابيب غير خاضع لسياسة سقوف الأسعار، ولاسيما خط أنابيب "دروجبا". كما استثنى الاتحاد الأوروبي بلغاريا من بنود الاتفاقية من النفط المنقول بحرًا. ونظرا لضخامة تأثير النفط على الاقتصاد الياباني، فقد حصلت اليابان ضمن مجموعة G7 على استثناء للنفط القادم من خط "سخالين 2" المتجه لأسواقها بأسعار تنافسية مقارنة بالنفط القادم من أقاليم جغرافية بعيدة عن جغرافيا اليابان.
  • وفيما يخص بدائل المقاومة الروسية، فإن الاقتصاد الروسي يعمل على عدة محاور:
    • محاولة تقويض الاتفاق قانونًا عبر حجب الاعتراف الروسي بالترتيبات الأوروبية للاتفاق، مع الإعلان عن الامتناع عن تصدير النفط الروسي لأي طرف يلزم نفسه طوعًا باتفاق سقوف الأسعار الأوروبية.
    • الدخول في صفقات تجارية مباشرة مع شركاء روسيا في التجارة النفطية لتحديد الأسعار بالآلية وبالقيمة التي تضمن مصالح طرفي التجارة دون غيرهما، حتى لو كان السعر المتفق عليه يقل عن السقف المحدد من جانب الاتحاد الأوروبي.
    • وبالنسبة لمشكلة التأمين وإعادة التأمين ضمن بنود سياسة سقوف الأسعار، فإن شركة "إنغوستراك إنشورانس" (Ingosstrakh Insurance) الروسية يمكن أن تقوم مقام التأمين الأوروبي في تقديم حلول وتغطيات لتأمين الحماية والتعويض تمثل خيارًا متاحًا لشركاء التجارة مع روسيا.[15]
  • ولضمان فاعلية هذه السياسة، فإن الاتحاد الأوروبي قرر تطبيق آلية تسمح بإجراء تقييمات وعمليات مراجعة بصورة منتظمة للحد الأقصى للسعر بداية من منتصف يناير 2023 لضمان الفاعلية والالتزام الكامل ببنودها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن حداثة تطبيق هذه السياسة في سوق النفط الدولية، والخبرات الطويلة للاقتصاد الروسي في مقاومة العقوبات وسياسات الحظر الدولي، ستحدد مصير وفاعلية هذه السياسة في الأجل المنظور، وتحديدًا خلال العام القادم 2023. ومع ذلك، فإن هناك عناصر عامة يمكن أن تحدد فرص نجاح سياسة سقوف الأسعار على النفط الروسي. ومن أبرز هذه المحددات ما يلي:

  • إن أول وأهم هذه المحددات هو مدى التزام شركاء التجارة من خارج الجماعة الأوروبية وتجمُّع G7 ببنود الاتفاقية، ولاسيما الصين والهند باعتبارهما أكبر المتاجرين في سوق النفط الروسي. ونظرًا لأن الالتزام بأي اتفاقية دولية مرهون بوجود عوائد اقتصادية مباشرة ومنافع سياسية يمكن أن تحققها الدول الملتزمة ببنودها، فإن المفاوضات التجارية المباشرة بين روسيا والصين وروسيا والهند قد تقدم حلولًا ومنافع اقتصادية لأطرافهما بمقدار أكبر مما تقدمه التجارة تحت مظلة سقوف الأسعار الأوروبية. ولذلك، فإنه بالقدر الذي سيتم به تطوير سياسة سقوف الأسعار لتحقيق منافع إضافية للصين والهند، يمكن ضمان فاعليتها في المستقبل المنظور خلال العالم القادم 2023.
  • تعتبر قدرة قطاعي النقل والتأمين البحري الروسي على تقديم البديل الأكثر موثوقية وملاءمة لشركاء التجارة النفطية الروسية هي من المحددات البالغة الأهمية في فاعلية سياسة سقوف الأسعار. ذلك أن السلاح الأساسي الذي ترفعه الجماعة الأوروبية في وجه غير الملتزمين بالاتفاقية هو عدم التمتع بمزايا النقل والتغطية التأمينية من الشركات الأوروبية. وعند توافر بدائل روسية، سيكون هذا السلاح غير فعال، أو على الأقل منخفض الفاعلية في تجارة النفط البحرية.
  • مع تنامي أنشطة النقل والشحن غير النظامية وغير الخاضعة للترتيبات الدولية في الخطوط الملاحية الدولية، وفي ظل الحدود المتوقعة لدور الرقابة البحرية من الدول الأوروبية وتأثرها بالأبعاد الجيوستراتيجية غير الاقتصادية، فإن بدائل الشحن والنقل للنفط الروسي من الشركات غير النظامية قد تشكل تقييدًا إضافيًا لفاعلية سياسة سقوف الأسعار على النفط الروسي.
  • ومع وجود استثناءات حالية من سياسة سقوف الأسعار، وبما يعني وجود رفض غير معلن من أطراف مؤثرة ضمن الدول الغربية، فإن اتساع قائمة الاستثناءات لتجنب الشقاق في صفوف الدول الغربية قد يفرغ الاتفاقية من مضمونها العقابي، وبما يشكل أيضًا محددًا مستقبليًا لفاعليتها حال الاستمرار في منح الاستثناءات للأطراف الأكثر تضررًا منها.
  • كما تلعب اتجاهات أسعار النفط خلال العام القادم 2023 دورًا شديد الوضوح في تحديد مستوى فاعلية السياسة الأوروبية لسقوف الأسعار للنفط الروسي. ففي حال ارتفاع أسعار النفط لمستويات تزيد من الضغوط التضخمية المرتفعة أصلًا، ستتولد وتتسع المقاومة الداخلية بين الدول المقررة لهذه السياسة لضمان زيادة الإمدادات النفطية في الأسواق العالمية ولاسيما من النفط الروسي. وبالتالي، فإن اتجاهات أسعار النفط في العام القادم ستلعب دورًا حاسمًا في فاعلية هذه السياسة.
  • وبالإضافة إلى المحددات المباشرة السابقة، فإن هنا العديد من المحددات الاقتصادية غير المباشرة؛ ومن بين هذه المحددات التطورات المتوقعة في معدلات التضخم في أسواق أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي حال استمرار الضغوط التضخمية على حالها وتراجع فاعلية الأدوات النقدية المستهدفة للتضخم، فإن العمل على النزول بأسعار النفط في سوق النفط العالمية سيكون أولوية قصوى، وبما يعود مرة أخرى ليقلل من فاعلية سياسة سقوف الأسعار على النفط الروسي. زد على ذلك أن أحوال الاقتصاد الصيني وتقلبه بين النمو السريع والنمو المتباطئ، والاتجاهات المتوقعة للنمو الاقتصادي العالمي، وظروف واتجاهات الإنتاج في تجمع أوبك - كلها ستمارس تأثيرات غير مباشرة على فاعلية سياسة سقوف الأسعار للنفط الروسي من خلال تأثيرها في الطلب على النفط في المستقبل المنظور.
  • ثم إن المحددات غير الاقتصادية، ولاسيما تطورات الحرب في أوكرانيا والتفاهمات والاتفاقيات المتوقعة بين أطراف النزاع، ستؤثر أيضًا على مستقبل سياسة سقوف الأسعار. ففي حال التوصل مثلًا إلى اتفاق سياسي شامل بين روسيا من جانب وبين أوكرانيا وداعميها من جانب آخر، يمكن أن يترتب على ذلك إلغاء بنود هذه الاتفاقية بالكلية.

وأيًا ما يكون الأمر، فإن مستوى الفاعلية لسياسة سقوف الأسعار النفطية سينعكس مرة أخرى على سوق النفط العالمية وعلى توجهات الإنتاج والأسعار النفطية في الأجلين المنظور والمتوسط. ولذلك، فإن متابعة مستمرة لمجريات الأحداث المرتبطة بالنفط الروسي والتحليل المستمر لقوى سوق النفط العالمية على جانبي العرض والطلب يظل ذا أهمية في ضمان الاستدامة والتوازن في هذه السوق الشديدة الحساسية للتقلبات في الاقتصاد العالمي حاليًا.

  1. خاتمة: نظرة استشرافية واجبة لتوجهات القوة في سوق النفط العالمية

منذ نحو نصف قرن، وتحديدًا منذ الصدمة النفطية الأولى في عام 1973، عانت سوق النفط العالمية من جراء تقلبات مستمرة أثرت على مكانة طرفي هذه السوق وبدلت من قدراتهما وأدواتهما في التأثير على الأسعار واتجاهاتها الزمنية. فبينما خضعت هذه السوق لقوة جانب العرض في أحيان كثيرة، فإن قوى جانب الطلب باتت ذات قدرات متنامية في التأثير ليس فقط في الأسعار، بل في مستويات ومرونات الإنتاج في هذه السوق.

ومن نافلة القول أن سوق النفط العالمية هي من الأسواق ذات الطبيعة الخاصة؛ فهي وإن كانت تتسم بملامح اقتصادية بحتة، فإن للأبعاد السياسية والأمنية والعسكرية والجغرافية تأثيرات حاسمة في استقرارها أو عدمه. وانطلاقًا من هذه الحقائق، وعود على بدء، فإن التأمل والتفكر المتجرد في سياسة سقوف الأسعار الموضوعة على النفط الروسي يعني بوضوح أن جانب الطلب في هذه السوق دائمًا ما يعيد ترتيب نفسه وتنظيم صفوفه للوقوف أمام قوى العرض، وبالشكل والمقدار اللذين يضمنان له تحقيق أقصى منافع ممكنة، اقتصادية كانت أو غير اقتصادية. ويدفعنا ذلك للقول إن احتمالات نجاح سياسة سقوف الأسعار سوف تعني تقدمًا جديدًا وتطورًا نوعيًا لقوى جانب الطلب في هذه السوق، عبر استخدام سلاح جديد تحت مسمى "سقوف الأسعار"، وهو السلاح الذي يمكن إشهاره في الزمان والمكان المناسبين لمصالح جانب الطلب. ولذلك تحديدًا؛ فإن قوى العرض عليها التعلم جيدًا من هذا الدرس لكي تضمن هي الأخرى تحقيق مصالحها الاقتصادية وغير الاقتصادية، ولكن من دون الإضرار بمصالح أيٍّ من الأطراف الدولية، أو حتى التأثير على مقتضيات النمو الاقتصادي العالمي في المستقبل.

المراجع

[1] يلاحظ أن هذا العام هو العام التالي لعام دخول روسيا ضمن ترتيبات أوبك بلس في 2016.

[2] الإشارة لصدمات النفط العالمية هنا تعني صدمة الأسعار الأولى والثانية في عامي 1973 و1979، والصدمة العكسية الثالثة في العام 1986.

[3] ولمزيد من التفاصيل حول أوبك بلس، راجع في ذلك الدراسة التالية: https://trendsresearch.org/ar/insight/opec-plus-and-the-reduction-of-oil-production/

[4] راجع في ذلك تقرير آفاق النمو الاقتصادي العالمي للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي على منصاتهما الإلكترونية المختلفة، ومنها: https://www.imf.org/ar/Publications/WEO/Issues/2022/10/11/world-economic-outlook-october-2022.

[5] راجع في ذلك بيانات BP في التقرير التالي المنشور على الإنترنت: https://2u.pw/ZqOpu.

[6] راجع في ذلك التقرير التالي على الإنترنت: https://www.bbc.com/news/world-europe-60125659.

[7] يشار للسلع ذات الاستخدام المزدوج بأنها العناصر ذات الأغراض المدنية والعسكرية، مثل قطع غيار المركبات والأجهزة التي يمكن إدخالها ضمن المعدات والتجهيزات العسكرية.

[8] راجع في ذلك نفس التقرير المشار إليه آنفًا في الرابط التالي: https://www.bbc.com/news/world-europe-60125659.

[9] المصدر السابق نفسه.

[10] مصدر سبق ذكره: https://www.bbc.com/news/world-europe-60125659.

[11] حدث ذلك ضمنًا أثناء زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمملكة العربية السعودية في شهر يوليو من العام 2022.

[12] بلغ التقييد الاسمي نحو 2 مليون برميل يوميًا، في حين كان التقييد الفعلي يناهز المليون برميل يوميًا، راجع في ذلك الدراسة المشار إليها آنفًا في الرابط التالي: https://trendsresearch.org/ar/insight/opec-plus-and-the-reduction-of-oil-production/.

[13] راجع في ذلك التقرير التالي على موقع الشرق على الإنترنت: https://2u.pw/wqsoNL

[14] المرجع السابق نفسه: https://2u.pw/wqsoNL

[15] صرّح نائب وزير النقل الروسي بأن السلطات الصينية لم تعترف حتى الآن بعقود التأمين الروسية، لكن الهند وتركيا تعترفان بها. وأكدت شركة تكرير هندية في وقت سابق أن روسيا توفر التغطية التأمينية لشحناتها من الخام. المصدر السابق لتقرير الشرق: https://2u.pw/wqsoNL


: 06-December-2022

Reviews (0)


       


Related Research

©2024 Trends Research & Advisory, All Rights Reserved.

'